بقلم - سوسن الأبطح
في الذكرى الستين لاستقلالها، لا تزال الجزائر تنتظر اعتذاراً شافياً من فرنسا على جرائمها الاستعمارية. وهو أمر سيطول بحثه، لأن فتح ملف المائتي سنة الماضية، يعني الدخول في منطق جديد يعيد ترتيب العلاقات بين البلدين. وهو ما فتح شهية الدول الأفريقية، التي خضعت بدورها لاستعمار فرنسي ظالم، ووقع أبناؤها ضحية التسلط والظلم والتمييز. فما أن وطئت قدم إيمانويل ماكرون عاصمة الكاميرون، ياوندي، قبل أيام حتى وجد ناشطين سياسيين بانتظاره يطالبونه باعتراف بلاده بالفظائع التي ارتكبتها بحقهم وانتهاكها لأبسط حقوقهم. الكاميرون بلد من سلسلة دول أفريقية استعمرت، وتنتظر اعتراف الجلاد بما فعله بالضحية. فإضافة إلى الكاميرون، هناك مالي وتشاد وبوركينا فاسو، والمطالبات بالتعبير عن الندم، تتصاعد، ضد الرجل الأبيض، ومسالكه الاستبدادية التسلطية، منذ القرن التاسع عشر.
وكان البابا فرنسيس سبّاقاً عندما اعتذر، في أبريل (نيسان) الماضي، عما فعلته الكنيسة بحق السكان الأصليين في كندا، ثم اعتذر 3 مرات متتاليات بعد وصوله إلى البلاد، مؤخراً، في «حج التكفير عن الذنوب»، معتبراً أن الكنيسة الكاثوليكية كانت شريكاً في «مشاريع مدمرة»، وأهمها المدارس الداخلية.
المفردات تعجز بالفعل عن وصف ما فعله البيض بالهنود من سكان البلاد، حتى سنوات قليلة خلت. لا تزال المقابر الجماعية يعثر عليها هنا وهناك، قرب المدارس الداخلية التي وضع بها عنوة آلاف الأطفال الهنود بعد أن انتزعوا من عائلاتهم، وجردوا من هويتهم ولغتهم وانتمائهم، وتعرضوا للتجويع والضرب والاعتداء الجنسي. وهو ما اعتبر نوعاً من «الإبادة الثقافية» و«الإلغاء» المتعمد.
نحن لا نتحدث عن فترة كانت فيها البشرية غارقة في عنصريتها السوداء فقط، بل يحصى ما بين عامي 1881 و1996 أكثر من 150 ألف طفل من أبناء الهنود الذين اختطفوا من أسرهم ووضعوا في مدارس داخلية.
ولا يمكن فهم الوظيفة الرهيبة لهذه المدارس من دون العودة إلى تصريحات أحد أهم مهندسيها في القرن التاسع عشر، نيكولاس فلود دافين، الذي كتب تقريراً حمل اسمه نصح فيه الحكومة بإنشاء مدارس داخلية لأطفال السكان الأصليين قائلاً: «إننا لن نكون قادرين على جعل الأميركيين الأصليين مواطنين مثل الآخرين إذا لم نقم بالقضاء على ما في عقولهم وقلوبهم من رؤية للعالم مشوبة بالسحر والقدرية، تعارض روح المبادرة التي ولدت منها الحضارات... يجب أن يحل شيء ما محل أساطيرهم الهندية البسيطة، مثل علم الكونيات وأخلاق الروح المسيحية وغرس حسّ الأسرة الصغيرة، والعمل والانضباط والصناعة».
كانت الغايات ترسم مع سبق الإصرار والترصد. لهذا لا يرضى هنود كندا باعتذار عابر، مهما كان صادقاً وورعاً؛ هم بحاجة لخطوات عملية واضحة. يطالبون بإعادة نظر في كل المرحلة، وتقييم لما حصل باستخراج الأرشيف وكشف الملفات. وهو تماماً ما تطالب به الجزائر فرنسا.
وكتب صحافي من أصول هندية في كندا رداً على اعتذار البابا: «لغتنا الأم هي الآن مجرد ذكرى بعيدة. هذه الاعتذارات لن تعيد أولئك الذين عانوا أو ماتوا أو انتحروا... نحن الأمم الأولى نعلم أن الكنيسة ليست هي التي ستخلصنا، بل أنفسنا. يمكننا أن ننقذ أنفسنا بالتوجه إلى عائلاتنا، وإعادة اكتشاف روحانياتنا ولغاتنا واحتفالاتنا. لن نحصل على السلام من رجل يرتدي الأبيض».
بالطبع لا يمكن فصل ما حدث في كندا عن أميركا. كتب البلغاري الفرنسي البديع تزفيتان تودوروف في كتابه «فتح أميركا» عن هول ما ارتكبه البيض عند اكتشافهم القارة الأميركية ما تشيب لها الرؤوس، من قتل وحرق وتعذيب واضطهاد، وكأنما الآخر لا ينتمي إلى جنس البشر، وإنما إلى فصيل لا يستحق الرحمة. ولا يزال الهندي في هوليوود بدائياً، يلبس الريش، ويتحدث ببعض حروف لا تفهم، وإن لم يبقَ منهم سوى 5 في المائة بعد أن قتلوا وقضي على هويتهم.
فكل تمييز إجرامي يرتبط بمبررات. وإلغاء الهنود الحمر إما كان توراتي الرؤية ارتبط بمهمة دينية مسيحية مقدسة، أو برؤية علمانية هدفها القضاء على البدائية والتخلف، ونشر الحضارة والتنوير، لكن النتيجة واحدة.
وتضامن الأميركيون مع الأرمن، والنساء، وأوكرانيا، والبوسنة، والحيوانات البرية، لكنهم لم يشعروا بالذنب الذي يستحق الاعتذار عن فظائع العراق وأفغانستان ونوويتي هيروشيما وناغازاكي، كما الفلبين، واللائحة تطول.
لذلك حسناً تفعل الجزائر، حين تطالب باعتذار مرتبط بإعادة نظر في المرحلة الاستعمارية برمتها. إذ كلف المؤرخ الفرنسي بنجامان ستورا بكتابة تقرير العام الماضي، لم يكن على قدر الآمال. وقبل أيام طلب منه الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، بعد لقاء مطول معه، القيام بعمل على الذاكرة يغطي كل الفترة الاستعمارية، وخاصة فترة الحرب التي دامت ما يقارب نصف قرن.
في الإسلام، ثمة مصطلح «توبة نصوح»، بدل «الاعتذار المخلص». وهذا يعني أن الجاني لا يعترف بجرائمه فقط، بل يضمر النية، ويرسم الخطوات الكافية، كي لا يعود إلى غيّه أبداً.
لهذا يطالب الضحايا المعنيون بالاعتذار اليوم، وهؤلاء إن بحثنا جيداً يشكلون ما يقارب نصف سكان المعمورة، بكشف المستور من الأرشيف، وإعادة النظر في المناهج الدراسية، والأعمال الأكاديمية البحثية، والنقد الذاتي المعمّق، كما إقامة المتاحف التي تدلل بطريقة عرضها وتقديمها لمادتها، أن ثمة ما يستحق الندم والشعور بالعار، من تاريخ الدماء والجشع والاستعلاء.