توقيت القاهرة المحلي 16:08:40 آخر تحديث
  مصر اليوم -

تشومسكي وسلالته

  مصر اليوم -

تشومسكي وسلالته

بقلم - سوسن الأبطح

تختلف الأحكام على نعوم تشومسكي الذي بلغ الـ95 بين مَن يتطرف في اعتباره مؤيداً شرساً لفلسطين والعرب، ومَن ينظر إليه كمراوغ يقول الشيء ويلمح لضده، وبأنه بقي صهيونياً مخلصاً، لكن على طريقته. الالتباس متأتٍّ من سعة معرفة الرجل، ولدانة فكره، وطواعيته أمام التحولات. كان منافحاً عن حل الدولتين مع يقينه بأنه لن يتحقق، ولم ير بعين الرضا «اتفاق أوسلو» لأنه الأدرى بنيات إسرائيل. وقبل أن يفقد النطق، وتبدأ مجازر غزة، تصوَّر أن الحل المتبقي والممكن، هو الدولة الواحدة بغالبية يهودية، تُستثنى منها التجمعات الفلسطينية الكبيرة. ولا نعرف مِن آرائه في الأشهر الأخيرة، سوى غضبه بتلويحات باليد اليسرى، قبل أن تخرج إشاعات موته التي جزع لها محبوه.

لا يجادل اثنان في عبقرية تشومسكي، ومهاراته التحليلية، وموسوعيته. ما جعله شهيراً في البدء، وما سيبقى منه للتاريخ، ليس آراءه السياسية الآنية الفانية، ولا مواقفه الاجتماعية الإنسانية، وإنما نظريته اللغوية الفذة، وإنجازاته في ميدان اللغات، حتى قيل إنه «أبو اللسانيات الحديثة».

قبل أن يتعرف طلابنا في الجامعات إلى تشومسكي اليهودي المرتدّ عن صهيونيته، ومنعته إسرائيل، ذات مرة، من دخول الضفة الغربية، ونُظِر إليه على أنه مارق وناكر لبني قومه، يتعلمون إنجازاته الرائدة، كواحد من أهم علماء اللغة وأعظمهم تأثيراً، في عصره.

نظرية هذا العبقري، «التوليدية التحويلية»، لم تسهم في تغيير اتجاه الدراسات اللغوية فقط، بل كان لها تأثيرها على علوم الأنثروبولوجيا، والنطق، والأعصاب، والطب، والمناعة، وكذلك علم النفس، والاجتماع. أكثر من ذلك، لتشومسكي فضل في تطوير أساليب البرمجة وعلم الحاسوب، والترجمة الآلية، من خلال فتوحاته العلمية حول احتمالات التبديل اللغوي الذي يستخدمة المبرمجون؛ فهو رياضي من الدرجة الأولى، علمي المنهج، قدَّم رؤية لغوية أنقذت الإنسان من جلافة النظرية السلوكية التي كانت تعتبر قدرات البشر الذهنية ميكانيكة، آلية، كالحيوان. أما تشومسكي فأثبت أن لدماغ الإنسان مرونة وقدرة فطرية خلاقة، ليست لأي مخلوق آخر؛ فالطفل بمفردات قليلة، وتراكيب محدودة، خلال فترة قصيرة، يستطيع أن يولد ويستنبط ويركب عدداً كبيراً من الجمل، وهي خاصية لم تُعطَ لغير البشر. هذا ما سماه «جهاز اكتساب اللغة» الذي انشغل باكتشاف أسراره وفك رموزه.

اللغة بالنسبة إليه مرآة، من خلال ظواهرها وبنيتيها «السطحية» و«العميقة» نفهم البنية الذهنية للبشر.

ما يهمنا أن تشومسكي دخل عالم اللغات من باب العبرية، وتزوج إسرائيلية، وعاشا معاً عام 1953 في مستوطنة حزوريا، وقضى وقتاً طيباً هناك، لكنه رغم ذلك لحظ تطرف الروح القومية وخشي بحدسه المبكر من العنصرية التي يُعامل بها الفلسطينيون، ففضل العودة إلى أميركا.

كل الظروف اجتمعت لتشومسكي ليصبح صهيونياً، انعزالياً، متقبلاً لوحشية إسرائيل وهستيريا حروبها. العائلة أوكرانية هاجرت إلى أميركا، في الوقت الذي توجهت فيه أسر أخرى إلى فلسطين. هناك علم والده في مدرسة دينية يهودية، وصار مديراً لها، قام بأبحاث حول اللغة العبرية، تعليمها وقيمتها وأهميتها وقواعدها. نعوم نشأ في هذه البيئة، تعلم العبرية، وتحدث الإيديشية، عايش الفكر الصهيوني، عانى من معاداة السامية، توجس من انتشار الفاشية في أوروبا، لكنه كان شغوفاً بالقراءة، وانخرط في الجامعة بدراسة اللسانيات والفلسفة، نال شهادة الماجستير عن أطروحته حول «الصيغ الصرفية في العبرية»، وتمكن بفعل براعته في القياس من توسيع دائرة نتائجه الأولى لتشمل لغات أخرى.

أعجب بأفكار التيارات اليسارية صغيراً، وتبلور حسه النقدي من نقاشاته التي بدأت في البيت، ساند الحركات الطلابية التي قامت ضد حرب فيتنام، وكتب مناهضاً هذه الحرب، ثم عارض الغزو الأميركي للعراق، وزار قطاع غزة عام 2012 تضامناً مع أهلها المحاصرين. وذهب تكراراً إلى الضفة.

حين ينتقد تشومسكي إسرائيل، فهو يفعل كيهودي، يفهم البنية العميقة لهذا الكيان، ومخاطرها على نفسها، ويشن حملاته على السياسات الأميركية كيساري يفهم سلطة المال ولعنته. يستشهد بآدم سميث الذي يقول إن أصحاب الثروات يتبعون مبدأ حقيراً هو: «كل شيء لأنفسنا، ولا شيء للآخرين»، معتبراً أنها جملة مفتاح لفهم السياسة الداخلية لأميركا التي تحكمها مافيات المصالح، ويقيس عليها السياسة الخارجية، ومن هنا تأتي حملاته على وسائل الإعلام التي هي مجرد أبواق يعدّها بديل السوط في الأنظمة الديكتاتورية.

الحكم على تشومسكي، وهو على سرير المرض، لا بد أن يتحرَّى العدل الذي يليق برجل تحلى بالشجاعة، وصدق الرأي، وسوية النفس، لنقول إنه قد يكون من أواخر الذين آمنوا بدور المثقف الفاعل العضوي، الذي دعا إليه غرامشي.

هو من سلالة مثقفي «المسؤولية الأخلاقية»، مثل إدوارد سعيد، إقبال أحمد، نورمان فينكلشتاين، الذين دانوا باستمرار صمت النخب، ولعبوا أدواراً تاريخية، بتوظيف اختصاصاتهم الضيقة، من أجل المصلحة العليا للإنسانية.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

تشومسكي وسلالته تشومسكي وسلالته



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 09:22 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية
  مصر اليوم - قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية

GMT 09:31 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة
  مصر اليوم - الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة

GMT 10:54 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر
  مصر اليوم - الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر

GMT 10:18 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

"نيسان" تحتفي بـ40 عامًا من التميّز في مهرجان "نيسمو" الـ25
  مصر اليوم - نيسان تحتفي بـ40 عامًا من التميّز في مهرجان نيسمو الـ25

GMT 08:11 2024 الخميس ,31 تشرين الأول / أكتوبر

وجهات سياحية مميزة توفر متعة التزلج في فصل الشتاء

GMT 16:32 2020 الجمعة ,18 كانون الأول / ديسمبر

والدة الفنان المصري عمر كمال تكشف موقفها من عمله

GMT 09:42 2020 الأحد ,06 كانون الأول / ديسمبر

تعرف على قائمة الإجازات الرسمية 2021 في مصر

GMT 02:51 2020 الجمعة ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

إصابة لاعب الأهلي المصري محمد أشرف بكورونا

GMT 20:23 2020 الأربعاء ,28 تشرين الأول / أكتوبر

طوارئ في قرية في محافظة قنا بسبب كورونا

GMT 18:31 2020 الإثنين ,28 أيلول / سبتمبر

مورينيو يوضح إصابة سون هي الأولى فقط المزيد قادم

GMT 09:49 2020 الإثنين ,27 تموز / يوليو

جيونبك يعزز موقعه في وصافة الدوري الكوري
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon