بقلم :خالد منتصر
فقدت الكتابة الصحفية «أسطى» من أسطوات الشغلانة، قلم مغموس فى الوجع والدهشة والفن، دهشة الطفل ونزق المراهق وحكمة الشيخ، الصديق محمود الكردوسى كانت قراءة ما يكتبه متعة ودرساً، عباراته منحوتة من إيقاع النبض والأعصاب، فيها بكارة وطزاجة وصدمة غير المألوف دائماً، كان حزيناً عندما هاتفنى عندما كتبت عن روايته «ذائقة الموت» وقال لى: أنت تقريباً الوحيد الذى كتب عنها وقرأها بتركيز، الرواية بديعة حقاً وتستحق قراءات نقدية كثيرة لثرائها وعمقها، ولكن الكردوسى كان فناناً خالداً يدفع ثمن خصومات السياسة العابرة وحماقات مزاج الفنان المتقلب العاصف، كنت دائماً أقول له: كتاباتك الفنية تحتاج إخلاصاً أكبر، ولكنها ماكينة الصحافة اليومية التى لا تقنع بشراكة الفن والتى تفرم الكثيرين من الموهوبين فى مفرمتها السحرية.
سنفتقد ضحكاتك المجلجلة وسخرياتك اللاذعة وحكاياتك الموجعة ومواعيدك المتأخرة ووعودك المؤجَّلة وتمردك الجميل وقلمك المتفرد، وهذه بعض اقتباسات مما كتبته عن روايته البديعة «ذائقة الموت» التى أدعوكم لقراءتها والاستمتاع بها:
«اختطفت نداهة الصحافة الكثير من الكتّاب وحرمتهم وحرمتنا من كنوز إبداعاتهم فى مجالات الفن المختلفة نتيجة مفرمة المطبعة التى لا ترحم ولا ترتوى وتدهس فى طريقها لحظات التأمل، والكاتب الصحفى محمود الكردوسى واحد من هؤلاء الذين يمتلكون الحس الروائى واللغة الرشيقة والخيال الجامح والتفكير بالصورة ورؤية المدفون والمطمور أسفل تراب العادة وطمى المألوف، وفوق هذا وذاك هو ابن الصعيد، هذه البقعة من العالم التى اختزنت فى نواتها أساطير العالم بحكمتها الموجعة وخرافاتها المدهشة، واختزلت فى حكاياتها عصارة الكون بكل أعاصيره العاصفة وسكونه الغامض، لذلك سعدت بصدور روايته العذبة ذائقة الموت عن دار العين للنشر، واحتفيت بلحظات انفلات المبدع من قبضة الصحفى، والهروب من لهاث الديسك والسبق والمانشيت إلى تروِّى الحلم وتمهُّل النسج الروائى والسبك القصصى، رواية تحس أنها فى بعض الفصول قد كتبت بأظافر تخدش وتعرِّى لحم الزيف لتكشف عرى الحقيقة الكامن فى الأحشاء، وفى البعض الآخر تشعر أنها قد كتبت بقوس كمان يطبطب بالموسيقى على قلب من يعيشون على الكفاف، رواية يحضر فيها الجنس والموت بنفس الكثافة والسخونة والحميمية، كأننا نعيش مارشاً جنائزياً فى ليلة حمراء، رواية يتجاور فيها الدين بعمقه وتوغله ورتوش الطائفية واحتكار السماء إلى جانب رقص الغوازى وحلقات الذكر وانحرافات الخطيئة، يصف بيوت فقراء الصعيد وآلامهم وأوجاعهم وصراعاتهم وكأنه يحمل جهاز أشعة رنين مغناطيسى يكشف المخبوء، هناك فقرات هى أقرب للشعر بروح الأبنودى وأمل دنقل».
«برع الكردوسى فى التسلل إلى القارئ ومراوغته قاصداً ومتعمداً ومع سبق الإصرار والترصد، حتى لا يعرف الخط الفاصل بين الواقع والأسطورة، كله ملضوم فى عقد روائى وسردى واحد لا تستطيع معه فرز الإكسسوار التايوانى من الفصوص الألماظ! وذلك حتى لا تضيع متعة السباحة فى بحر الرواية ببوصلة التشكك والتمحيص فى المد والجزر والعمق وسرعة الرياح، أجواء من كافكا وماركيز ويحيى الطاهر وهنرى ميللر، منذ الفصل الأول يواجهنا الموت بكل ثقله ووطأته وعبثيته، حاملاً معه رائحة علاقات جسدية حميمة، وكأن كل الكائنات من النبات للجماد ومن الإنسان للحيوان تتنفس جنساً، خلف كل قصة موت أسطورة وملحمة من ركام الحكايات والعلاقات المتشابكة المجهدة تحتاج معها إلى أجندة تدوين وتصنيف وترتيب أحداث وعلاقات قرابة، حتى أسماء أبطال الرواية هى أقرب للتمائم والتعاويذ الغامضة منها إلى الأسماء الواضحة الدالة، وكأن الكردوسى يخبرك منذ البداية: أنت مقبل على غابة روائية هى كالأحراش فلابد أن تحتشد».