بقلم :خالد منتصر
هل هى صدفة أن تنتشر أخبار جدرى القرود فى نفس الشهر الذى يحتفل فيه العالم بمرور 226 عاماً على أهم تجربة طبية ومغامرة علمية فى التاريخ، مغامرة إدوارد جينر ولقاح الجدرى؟! هل هى صدفة أن يكتشف العلماء أن لقاح الجدرى الذى هجرناه بعد أن انتهى من العالم ما زال فعالاً بنسبة ٨٥٪ فى الوقاية، وصارت هناك أصوات تنادى بإعادة التلقيح ضد الجدرى مرة أخرى، وما زال الجدل دائراً؟
كلمة السر هى عبقرية علمية بتفكير خارج الصندوق وتحليق خارج السرب اسمها إدوارد جينر، كان إدوارد جينر، قديس الطب وأبوالتطعيم، قوى الملاحظة منفتح الفكر، يعرف أن بداية العلم هى السؤال، والأهم من السؤال نوعية السؤال، كان السؤال السائد الذى لم يفلح فى حل اللغز هو كيف نعالج الجدرى؟ هذا المرض المرعب القاتل الذى حصد أرواح ٦٠ مليوناً فى فترة حياة «جينر» فقط، قرر «جينر» أن يغير صيغة السؤال ليصبح: لماذا لا تصاب حالبات الأبقار وبائعات اللبن بالجدرى؟! هل إصابتهن بجدرى البقر تحميهن من جدرى البشر؟ كان لا بد أن يجرب تطعيم جدرى البقر على متطوع من البشر، ثم يحقنه بخلاصة المرض المرعب، ليُجيب عن سؤاله ويثبت كشفه العلمى، قرر «جينر» أن يكون هذا المتطوع ابنه الوحيد، وفى أقوال أخرى كان طفلاً عزيزاً من أقاربه! من المحتمل جداً أن يموت هذا الابن، ويصبح شهيد العلم، أو بلغة عصره شهيد الحماقة، التى يصفون بها كل مكتشف يسبق عصره.
أجرى «جينر» التجربة، ونجحت المحاولة وعاش الابن، وكسب العالم أعظم إنجاز طبى فى التاريخ، فكرة التطعيم التى أنقذت مئات الملايين من أطفال العالم، الذين لا بد أن يتعلّموا مع كلمتى بابا وماما الدعاء لهذا الرجل العظيم الذى عانى من هجمة التخلف وسخرية المتزمتين وإهمال المسئولين، ورغم ذلك صمد ولم يُنصَف من بلده إلا بعد موته، هدّدته نقابة الأطباء وقتها بالفصل إن لم يرجع عن هذيانه، وامتلأت الصحف بالكاريكاتير الذى يصور البشر بأدمغة البقر بعد التطعيم، ورفضت جامعة أكسفورد منحه درجة الدكتوراه إلا بعد دراسة الأدب الإنجليزى الكلاسيكى! ولم يستطع أن يُلحق ابنه بوظيفة فى إنجلترا، وطنه الذى ظل قرابة خمسين عاماً لا يعترف بالتطعيم، ويعفى برلمانه المواطنين منه بمجرد قسمهم بأغلظ الأيمان أن التطعيم خطر على أطفالهم، فى نفس الوقت الذى عرض عليه دجال سرق فكرته أن يعيّنه فى عيادته التى يمارس فيها التطعيم مساعداً له!!
كفّرت إنجلترا عن ذنبها فى حق إدوارد جينر، خاصة أن نابليون عندما حاربها لم يطلق الأسرى إلا بناءً على طلب «جينر»، الذى قال عنه: «لا أستطيع أن أرد له طلباً»، اعترفت بعبقريته بعد أن جعلت ألمانيا يوم ١٤ مايو عيداً شعبياً، وبكى «جينر» من الفرحة قبل وفاته ليس من أجل النياشين والأوسمة، لكنه بكى عندما تلقى خطاباً من امرأة فقيرة ريفية كتبت فيه: «تعودت فى كل عام أن أوارى طفلاً أو طفلين التراب من جرّاء الجدرى اللعين، لكن بفضلك عاش أطفالى يملأون الدنيا بهجة وسعادة».