بقلم :خالد منتصر
من الممكن أن تتخلى أى دولة عن صناعة الملابس أو السيارات أو المأكولات، حتى رغيف الخبز من الممكن تركه للقطاع الخاص، إلا صناعة الثقافة، فدائماً هناك ركن كبير لا يقتحمه القطاع الخاص فى مجال الثقافة، لأنه لا يحقق مكسباً مادياً ملموساً أو ربحاً من الممكن أن يوضع كبنكنوت فى البنوك، وحتى فى أعتى الدول الرأسمالية دائماً ما تسهم الدولة والحكومة فى نشر الثقافة والتدخل فيها وإدارة دفتها، ليس بمعنى الرقابة ولكن بمعنى الرؤية الثقافية الشاملة والرقى بالوجدان وتنوير العقول، إنه التصنيع الثقافى الثقيل، لذلك من أهم الوزارات التى لا بد أن تحصل على دعم، وزارة الثقافة، التى لا بد أن تكون لها نافذة إعلامية تطل منها بكل أنشطتها الثقافية علينا وعلى المجتمع، قناة ثقافية تنويرية لوزارة الثقافة.
التصنيع الثقافى الثقيل هو الكتاب الذى تتخوّف دور النشر الخاصة من نشره، لأن موضوعه لن يوزع ولن يكسب، كتب الفلسفة أو علم الاجتماع، كتب النقد المسرحى والسينمائى، كتب الثقافة العلمية.. إلخ، لذلك تشجيع هيئة الكتاب فريضة، لأن ماكيناتها هى الوحيدة التى ستطبع مثل تلك النوعية، ولنتذكر ماذا فعلت مكتبة الأسرة فى كثير من البسطاء المصريين من ذوى الدخل المتوسط، وكيف تم تأسيس مكتبات فى البيوت التى لم تكن تحلم بتوافر كتب بل مجلدات وسلاسل بتلك الأسعار الزهيدة.
مَن يطبع المجلات الثقافية غير هيئة الكتاب؟ مَن يعيد طباعة دواوين الشعراء وقصص الروائيين الذين أغفلتهم دور النشر الخاصة إلا هيئة الكتاب؟ التصنيع الثقافى الثقيل هو ما يجعل ابنك الطالب يدخل متحف الفنون التشكيلية بملاليم وأحياناً مجاناً، هو الأوبرا التى تستقبل الشباب بإبداعاتهم المسرحية والموسيقية وتسمح لسقف أحلامهم بالارتفاع ليحلقوا بعيداً عن حسابات الربح والخسارة، هو المركز القومى للترجمة الذى قدم آلاف الترجمات فى كل ألوان الطيف الثقافى، هو المسرح القومى ومسرح الطليعة والكوميدى والحديث والتجريبى.. إلخ، هو دعم السينما التسجيلية التى لا تكذب ولا تتجمل، هو قصور الثقافة التى تحتضن أطفالنا وأحفادنا لتعلمهم أن مَن يعزف الكمان بالقوس لا يمكن أن يُذبح بالسكين، وأن من ترتدى حذاء الباليه لا يمكن أن ترتدى الحزام الناسف.
التصنيع الثقافى الثقيل هو مهمة الدولة بالضرورة، الذى لا تنظر إلى أرباحه الآن لأنها بدعمه تربح المستقبل، الدولة التى تريد أن تحارب الإرهاب لا الإرهابيين تعرف أن خط دفاعها الأول هو الثقافة، لا نريد للمسئولين عن الثقافة أن نعرّضهم لتسول لقطة إعلامية هنا أو قطعة هناك من حلقة أو برنامج، نريد لوزارة الثقافة قناة تنويرية ثقافية جذابة بإمكانيات كبيرة، فكل جنيه سيُصرف على تلك القناة عائده «ناس متنورين»، كل جنيه سيوفر ثمن رصاص، كل جنيه هو ذخيرة فى الحرب ضد التخلف والفاشية.
إن تصنيع الإنسان المثقف الذى يمتلك المنهج النقدى فى الفكر، والذى لديه إحساس راقٍ بالجمال، هو أهم مهمة فى دستور الجمهورية الجديدة.