بقلم :خالد منتصر
عشنا أسرى بديهية أن المرض النفسى هو مرض أبناء المدن الكبيرة والعواصم المزدحمة وتوتر التكدس وقلق الرفاهية والتنافس.. إلخ، حتى أفاق المجتمع المصرى على حوادث بشعة تحدث فى عمق الريف المصرى، الذى كنا نصفه بالهدوء والسلام النفسى، حتى أصبحت الجملة الشهيرة التى ينطقها الطبيب فى الفيلم وهو يغادر الشقة هامساً فى أذن الزوج: «الهانم متوترة ولازم تاخد لها إجازة يومين فى العزبة»، جملة «راكور» فى الأفلام القديمة.
آخر تلك الجرائم ارتكبتها الزوجة خريجة كلية التربية التى سافر زوجها إلى السعودية وتركها مع أهله وثلاثة أولاد، أصغرهم عنده ثلاثة شهور، فذبحتهم جميعاً وذهبت لتنتحر تحت عجلات جرار زراعى.
سيدة مضغوطة تتحمل مسئولية البيت كله من الألف إلى الياء، غالباً مضطرة أن ترتدى النقاب ٢٤ ساعة لوجودها فى بيت أهل زوجها، خارجة من تجربة حمل صعبة، أصابتها باكتئاب حمل فوق اكتئابها. كتبت خطاباً إلى زوجها لتخبره بأنها ذبحتهم لترسلهم إلى الجنة!
فى القرية يتعاملون مع مثل تلك الأشياء بالذهاب إلى الشيخ أو عمل رقية شرعية أو الذهاب للدجالين لفك السحر المعمول لها فى قرن ثور أو مدفون فى جبانة.. إلخ، وآخر شىء يبحثون عنه هو الطبيب النفسى، وحتى لا نظلمهم فى أحيان كثيرة يكون السبب أنه لا يوجد طبيب نفسى فى القرية ولا فى المركز ولا فى المدينة المجاورة!!
الطبيب النفسى المتخصص الحاصل على ماجستير فى الطب النفسى عملة نادرة فى وزارة الصحة وحتى فى الجامعة، فهو تخصص لا يحقق ربحاً، مثل طب النساء أو الأطفال أو الجراحات.. إلخ، ومشكلته أنه مشتبك مع ميراث ثقافى ثقيل ومتخلف يعتبر المرض النفسى عاراً وسُبة، وينسبه تارة للعفاريت والجن وتارة أخرى لعمل سفلى أو عين حسد، ولذلك فالطبيب النفسى آخر الاختيارات هناك.
يزيد على ذلك التعامل الساخر فى الإعلام والدراما مع شخصية الطبيب النفسى التى هى صيد ثمين للكوميديا والسخرية من وجهة نظر صناع المسلسلات والأفلام، لذلك فالعدد قليل وأغلبهم يسافرون إلى الدول العربية، خاصة المتميزين منهم، لذلك فإن هذه السيدة لا تفهم ما هو اكتئاب ما بعد الحمل، ولا أهل قريتها، ولا الشيخ الذى يرقيها ولا الذى يفك لها العمل، الحمل عندهم مجرد حمل، عندهم اعتقاد ساذج أنه مثلما ستلد الكائنات المحيطة بهم فى الحقل بدون اكتئاب فستلد السيدات بدون اكتئاب أيضاً!!
لذلك نرجو من وزارة الصحة ومن الجامعات زيادة عدد المطلوبين فى نيابة وتخصص الطب النفسى، وتوزيعهم بالعدل على المحافظات، نريد إحصائية دقيقة عن عدد الأطباء النفسيين فى مصر عموماً، الموجود منهم وغير المسافر أو المهاجر، ونسبة توزيعهم على المحافظات، ولا بد من إعطاء الطبيب النفسى الذى يتعامل مع الريفيين بالذات خلفية من دراسات علم الاجتماع عن الأساطير والخرافات والحكايات المنتشرة هناك والتى يرفعها البعض لمرتبة القداسة وكيف يتعامل معها.