بقلم :خالد منتصر
أشطر وأمهر ما نجيده فى مجتمعنا هو ممارسة الوصاية، وأهم مخترعاتنا هو جهاز «الأخلاقوميتر»، الذى يحمله كل مواطن فى جيبه مع سلسلة مفاتيحه، يقيس به أخلاق جاره، ويراقب صديقه وصديقته ورئيسه ومرؤوسه وأقاربه وسكان الشارع، وأحياناً شوارع العالم شرقه وغربه، وسواس الوصاية القهرى، وممارسة التلصُّص والتنصُّت ومتابعة الآخرين بشعاع الليزر اللزج الذى يخرج من الآذان والأعين، كل فرد يريد إصلاح أخلاق الآخرين ولا ينظر إلى نفسه مطلقاً، يعتبر نفسه مبعوث العناية الإلهية فى كل لحظة وتصرّف، يتملكه إحساس هداية فائض و«مدلدق»، وفرط إفراز من غدة الحشرية والتطفل، دون أن يطلب منه أحد أى نصيحة، يتطوع هو من تلقاء نفسه باقتحام خصوصيتك، ودس أنفه الذى لا بد أن يكون ملتصقاً بمقدمة وجهه لا بمقدمات ومؤخرات حياتك أنت، كل مواطن عين نفسه وصياً عليك بدرجة متطوع.
نحن لا نعترف بألوان الطيف الإنسانية، لوحاتنا كلها أبيض وأسود كأفلام الثلاثينات، ما المعيار أو المقياس الذى يقيس به جهاز الأخلاقوميتر؟ ما المواصفات القياسية للأخلاق؟ ومن يُحدّدها؟ وما المرجعية؟
ارتفع منسوب الوصاية الأخلاقية فى المجتمع المصرى بشكل كبير ووبائى، ويزيد كل يوم، وكل واحد وتفسيره ومزاجه فى وضع الباترون الأخلاقى الذى يجب علينا أن نمشى به أو نرتديه على مزاج حضرته أو فضيلته، والباترونات تختلف، ولكن علينا فى كل دقيقة أن نكون على أهبة الاستعداد للقفز داخل الباترون أو الكتالوج مهما كان مقاسه، نغير أحجام وأشكال أجسادنا وأرواحنا لتلائم الباترون، ولا نستطيع ولا نجرؤ على تغيير الباترون نفسه، طالبة جامعية ترتدى فستاناً محتشماً، لكن الجامعة لا تعترف بفكرة الفستان نفسها، وتعتبره فسقاً وفجوراً، يجب على الطالبة أن تشكّل عجينة روحها وعقلها وجسدها لملاءمة الباترون! لاعب كرة عالمى يقول إنه لا يحب الخمر، قال لكنه لم يقل على حسب القالب الجاهز بتاعنا، نطرده من جنتنا ونشتمه ونسبه بعد أن كان فخرنا وفخارنا، حتى من يسلك السلوك الذى فرضناه عليه، لا بد أن يبرره كما نبرره نحن وإلا دهسناه كما دهست الفيلسوفة هيباتيا، والشيخ حسن شحاتة، والبنت التى دهستها أمها بالسيارة، لأنها قررت أن تظهر خصلات شعرها فى الشارع!! وكما نحاول أن ندهس أى مختلف فكرياً معنا، شاب يسير مع خطيبته فى الشارع يخرج عليه المطوعون الجدد ليسألوه «دى أختك؟»، وعندما يسألهم «وانتم مالكم؟»، يقتلونه بلا رحمة وبكل قلب بارد، جيران يقتحمون شقة سيدة تعيش وحيدة لأنهم يشكّون فى سلوكها وتنتهى القصة بها ملقاة من النافذة!!
ماذا يحدث؟ ولماذا هذا التطفل وتلك العدوانية فى فرض الوصاية وشبق القمع ونشوة الوعظ وإهدار القانون لصالح العرف المزيف، وأحياناً كثيرة لصالح النفاق والمداهنة ومغازلة الغوغاء والسيكوباتيين، نحن كبصمات الأصابع نختلف ولا نتشابه، نحن لسنا غرباناً متشابهين متطابقين بلا ملامح مميزة، نحن طيور بريش طاووسى ملون، نحس ونفكر ونبدع من خلال موتور وجدانى وعقلى مشترك اسمه الحرية.