بقلم :خالد منتصر
فى ذكرى رحيل رائد التنوير د. طه حسين هل تتذكر عزيزى القارئ اسم الشخص الذى قدم بلاغاً ضد طه حسين وكفّره بسبب كتابه «فى الشعر الجاهلى»؟ بالطبع لن تذكره ولن يذكره التاريخ وسيظل طه حسين خالداً إلى الأبد. هل يذكر أحد حتى من متخصصى الشعر والنقد أسماء من كفّروا المعرى واتهموه بالزندقة؟ بالطبع لا؛ ذلك لأن التاريخ لا يذكر الأقزام وتسقط من ذاكرته أنصاف المواهب وكل المتسلقين على أكتاف العظماء، ولكن ما سيذكره التاريخ باستنكار وتأفف هو أننا سمحنا فى زمن حكم الإخوان بقطع رأس طه حسين فى مسقط رأسه بالمنيا ورأس أبى العلاء المعرى فى مسقط رأسه بمعرة النعمان فى سوريا! إنها ليست مجرد رؤوس تماثيل ولكنها مقدمة لاجتثاث رؤوس تسكنها عقول، ونحن نعرف مدى كراهيتهم للعقل، فهو الذى يفضح كذبهم وتجارتهم الدموية، العقل هو عدوهم المزمن الذى باغتياله صار الربيع العربى خريفاً مقيماً ذابل الأوراق يعادى الشمس والنور والحرية. ليست مصادفة أن قُطع رأسا تمثالى طه حسين والمعرى فى التوقيت نفسه، وليست مصادفة أن تكون رسالة الدكتوراه الأولى لطه حسين عن أبى العلاء، ووقتها طلب عضو من الجمعية التشريعية قطع المعونة عن الجامعة لأنها خرّجت ملحداً يحضر دكتوراه عن ملحد مثله، فهدده الخديو بأنه إن لم يسحب الشكوى سيمنع المعونة عن الأزهر لأن طه خريج الأزهر أيضاً! ليست مصادفة أن تجمعهما أشياء كثيرة مشتركة، فكلاهما أصابه العمى فى الطفولة بعد الجدرى وبعد الرمد، كلاهما سافر طلباً للمعرفة، الأول إلى أنطاكية وحلب واللاذقية وبغداد والثانى إلى مونبيلييه وباريس، كلاهما كان متيماً وعاشقاً للمتنبى، كلاهما اتهم بالكفر، الأول بسبب «رسالة الغفران» والثانى بسبب «الشعر الجاهلى»، وكلاهما تبنى نظرية الشك وطبقها على الشعر الجاهلى.. إلخ، صفات مشتركة كثيرة قادتهما فى النهاية لنفس المصير المشترك بقطع الرأس المتخيل بمعاول كارهى العقل بعد فشل قطع واغتيال أفكارهما الثورية واقتلاعها من رؤوس القابضين على جمر العقل. المعرى هو الذى قال فى العقل «أيها الغرّ إنْ خُصِصْتَ بعقلٍ فاتّبعْهُ، فكلّ عقلٍ نبى»، وقال «يرتجى الناسُ أن يقومَ إمامٌ ناطقٌ فى الكتيبة الخرساء.. كذب الظنّ لا إمام سوى العقل مشيراً فى صبحه والمساء، فإذا ما أطعـته جلب الرحمة عند المسير والإرساء.. إنما هذه المذاهب أسباب لجذب الدنيا إلى الرؤساء»، وطه حسين هو الذى دافع عن الشيخ بخيت عندما حاكمه الأزهر على فتوى إفطار رمضان لمن شعر بمشقة، مطالباً بحق الحرية وحق الخطأ وعدم محاكمة إنسان على رأيه مهما كان هذا الرأى. كيف يموت المعرى وطه حسين وقد خلدهما الشعر؟ الأول بقصيدة شاعر العراق الجواهرى والثانى بقصيدة شاعر سوريا نزار، قال الجواهرى عن المعرى: «قِفْ بالمعَرَّةِ وامسَحْ خَدَّها التَّرِبا/واستَوحِ مَنْ طَوَّقَ الدُّنيا بما وَهَبا/واستَوحِ مَنْ طبَّب الدُّنيا بحكْمَتَهِ/ومَنْ على جُرحها مِن روُحه سَكَبا/وسائلِ الحُفْرةَ المرموقَ جانِبُها/هل تبتَغي مَطْمَعاً أو ترتجي طلَبا ؟/يا بُرجَ مفْخَرةِ الأجداث لا تهِني/أنْ لم تكُوني لأبراج السَّما قُطُبا/فكلُّ نجمٍ تمنَّى في قَرارته/لو أنَّه بشُعاعٍ منكِ قد جُذبا». وقال نزار قبانى عن طه حسين: ضوءُ عينَيْكَ.. أم حوارُ المَـرايا أم هُـما طائِـرانِ يحتـرِقانِ؟ هل عيـونُ الأديبِ نهرُ لهيبٍ أم عيـونُ الأديبِ نَهرُ أغانى؟ آهِ يا سـيّدى الذى جعلَ اللّيـلَ نهاراً.. والأرضَ كالمهرجانِ.. اِرمِ نـظّارَتَيْـكَ كـى أتملّـى كيف تبكى شـواطئُ المرجـانِ اِرمِ نظّارَتَيْكَ... ما أنـتَ أعمى إنّمـا نحـنُ جـوقـةُ العميـانِ أيّها الأزْهَرِىّ... يا سارقَ النّارِ ويـا كاسـراً حـدودَ الثـوانـى عُـدْ إلينا.. فإنَّ عصـرَكَ عصرٌ ذهبـىٌّ.. ونحـنُ عصـرٌ ثانى سَـقَطَ الفِكـرُ فى النفاقِ السياسىِّ وصارَ الأديـبُ كالـبَهْـلَـوَانِ يتعاطى التبخيرَ.. يحترفُ الرقصَ ويدعو بالنّصـرِ للسّلطانِ.. عُـدْ إلينا.. فإنَّ مـا يُكتَبُ اليومَ صغيرُ الرؤى.. صغيرُ المعانى.