بقلم :خالد منتصر
رحل عنا الإذاعى المخضرم القدير حمدى الكنيسى، تتساقط أوراق شجرة جيل إذاعى عظيم ورائد أثر فى أجيال وترك بصماته على كل ألوان الطيف المصرى، هو ابن مدرسة «صوت العرب» الرصينة، لكنه كان على عكس المذيع أحمد سعيد الذى كان من مدرسة الصوت العالى الحماسى الخطابى الزاعق، كان «الكنيسى» على العكس هادئ الصوت رقيق النبرات يتسلل برقة إلى قلب وعقل المستمع، ارتبطنا به جميعاً وقت أن كان مراسل الإذاعة فى حرب أكتوبر، كانت تقاريره اليومية كشافاً للبيانات العسكرية السريعة التى كنا فى لهفة أن نتعرف على تفاصيلها، كنا نجد تلك التفاصيل عند حمدى الكنيسى.
لى مع الأستاذ الراحل حكاية بسيطة لكنها تعكس معنى الشخصية الملتزمة الجدعة، فقد كان رئيساً للإذاعة وقت أن كنت أعد المسلسل الرمضانى الذى كان مقسماً إلى ثلاثة أجزاء، مسلسل «بنات القمر» عن قصة الكاتب الكبير عادل حمودة وبطولة يسرا وهالة صدقى ويوسف شعبان وماجد المصرى وأبوبكر عزت ومعالى زايد وغيرهم من النجوم، من إخراج المخرج الراحل الجميل يوسف المشرى الذى غادرنا فى عز شبابه، كنت ما زلت فى بداية المشوار أتحسس طريقى فى دروب الإذاعة، حائراً ما بين الطب والكتابة، محتاجاً لإثبات وجود وتحقق هوية، وإذا بلجنة القراءة ترفض المسلسل، وعرفت أن ناقداً كبيراً واسماً مهماً وباحثاً عظيماً فى التراث الشعبى هو الذى قاد جبهة الرفض داخل اللجنة، معترضاً على الجزء الثانى الذى يحتوى على قصيدة هوامش على دفتر النكسة للشاعر نزار قبانى، وكان الطلبة فى أحداث المسلسل يتداولونها سراً، اعتبرها الناقد الكبير إهانة للزعيم جمال عبدالناصر، وكان هذا الناقد ناصرياً متحمساً جداً، وهدد بالاستقالة ورفع الأمر لجهات عليا، وقال «على جثتى مرور هذا المسلسل».
كنت فى هذه المعركة وحيداً، وبحماس الشباب وجدتنى أطلب من مدير مكتب رئيس الإذاعة حمدى الكنيسى الدخول للشكوى وشرح الأمر، وكان أمامنا أسبوع على رمضان، سمح لى الكنيسى بالدخول وهو لا يعرف من هذا المجهول الذى اقتحم عليه مكتبه، قابلته وشرحت له الأمر، وظل منصتاً طيلة حديثى لا يعلق، وقال اترك لى الأمر وسأقرأ المسلسل بنفسى، وبعد يومين هاتفنى المشرى وهو فى منتهى السعادة قائلاً «رئيس الإذاعة وافق على المسلسل بل وكتب أنه مسلسل متميز»، لم أصدق نفسى فقد كان تجميع هؤلاء النجوم فى زحمة رمضان ثم الاعتذار لهم كارثة تشطب عليك إلى الأبد، والحمد لله نجح المسلسل بفضل تدخل رئيس الإذاعة حمدى الكنيسى، وللأسف استقال الناقد الكبير من اللجنة احتجاجاً وظل يهاجم الكنيسى طيلة حياته، لكن الكنيسى انتصر للفن وللحرية برغم أن الكلام عن الهزيمة فى الدراما بالنسبة لمراسل عسكرى حضر النصر شيئاً من الممكن أن يستفزه، لكنه كان إعلامياً بداخله شاعر، رحم الله حمدى الكنيسى وأمد الله فى أعمار من ما زال حياً من هذا الجيل الذهبى.