بقلم :خالد منتصر
اليوم احتفلنا بعيد ميلاد د. مصطفى محمود المائة، قرن كامل مر على ميلاد من أثار الجدل سلباً وإيجاباً فى شبابه وفى شيخوخته أيضاً، لكن للأسف تستطيع أن تقرأ كل كتبه وتشتريها من السوق فى عدة طبعات مختلفة، ومن دور نشر متعددة، إلا كتاب «الله والإنسان»، الذى كتبه فى نهاية الخمسينات، وصودر فور نشره بأمر من السلطة السياسية، ممثلة فى الرئيس عبدالناصر، والدينية ممثلة فى الأزهر ودار الإفتاء التى كتبت تقريراً عنيفاً تتهم فيه مصطفى محمود بالازدراء قبل صدور قانون يحمل تلك الصفة بنصف القرن. وفى عهد السادات حاولت بعض دور النشر طباعته لكن مصطفى محمود نفسه رفض، فكان قد تخلى عن أفكاره التى كتبها فى هذا الكتاب، ودخل مرحلة أخرى لها ما لها وعليها ما عليها، وللأسف هذه الفترة المبكرة من حياة مصطفى محمود لم تأخذ حظها من الإضاءة والتحليل والعرض والنقد، رغم أنه كتب فيها قصصاً قصيرة من أجمل وأعذب القصص العربية على الإطلاق، والتى كان من الممكن لو استمر فى كتابتها أن ينافس زميله فى كلية الطب يوسف إدريس.
كتاب «الله والإنسان» كتاب مظلوم، كتاب يعبر عن أفكار شاب متمرّد يُحلق بجناحيه فى عالم الفلسفة، الأسلوب رائع، والعرض جذاب، ولو تمّت قراءته بعد كل تلك السنوات وفى ظل مئات المدارس الفكرية والفلسفية التى ظهرت فى الستين عاماً التالية، سنجد أنه لا يستحق المصادرة، بل يستحق العرض والمناقشة، من الممكن أن تختلف مع بعض الأفكار المتناثرة هنا وهناك، ولكنه اختلاف الحيوية وليس اختلاف النفى، وإليكم بعض الاقتباسات من نسخة شاردة تم إنقاذها من مخالب المصادرة:
- إننا فى الشرق نتكاثر فى مهارة نُحسد عليها، ونصنع الأطفال بالسرعة التى يصنع بها الأمريكيون شفرات الحلاقة، فنتضاعف كالنمل كل عام، لكن قطار التطور لا يهم فيه عدد العربات التى يجرها، وإنما المهم هى الماكينة التى تجر وهى ماكينة من سلندر واحد هو الوعى.
- الكفر بحرية الإنسان جريمة أقبح من القتل.
- إن الحرية، حقيقةً، هى صرخة أحسها فى داخلى، وتحسها فى داخلك، فتعلو على نحيب الكتب الصفراء وتغرقها، أنت حر وحياتك مغامرة وغدك مجهول، أنت الذى تقيم أصنامك وأنت الذى تحطمها، فامضِ فى طريقك ولا تنسَ هذه الأمانة التى تحملها على كتفيك: الحرية.
- أتعس اللصوص، وربما أشرفهم، هم لصوص فى الحديد، فى السجن، فى بالوعة المجتمع، وما أكثر ما تتلقف البالوعات من حُلى ثمينة، لقد كان فرانسوا فيللون أفاقاً ولصاً وشاعراً، وحينما كان يموت بالسل فى سجنه نحيلاً أزرق متقطع الأنفاس كان يترنم بالقصيدة الخالدة التى يقول فى آخرها: (أيها الدود فى قبرى عذراً.. فلن تظفر منى بوليمة دسمة، فقد أكلنى الناس على الأرض، ولم يتركوا لك إلا العظام).
- الشرف ليس كما يظن الناس معنى مطلقاً وحقيقة واحدة ثابتة، إنما هو نسيج محلى يخضع للاستهلاك المحلى ونوع الزبون، كل دولة لها شرف خاص، وكل بلد، وكل إقليم، بل كل بيت، وأحياناً كل إنسان له شرف خصوصى، وإذا حكمنا بأغلبية البضاعة الموجودة فى سوقنا الشرقية، فالشرف عندنا معناه مضحك حقاً، الشرف عندنا معناه صيانة الأعضاء التناسلية! الشرف عندنا خاص بالجسم فقط، أما شرف العقل فهذا تفكير بربرى.
- أنا من هواة جمع المواعظ، وأعتقد أن هذا أفضل من جمع الطوابع والسجاجيد والنقود القديمة، وإن كنت أكتفى بجمعها فقط وأترك مهمة تطبيقها للناس الأفاضل الأتقياء، إن الفضائل نسيج حى يتطور باستمرار ويتعفّن إذا حُفظ، والفضائل المجفّفة وفضائل العلب لا تصلح لأمعائنا الحديثة.
- السعادة هى اندفاع الطاقة الإنسانية حرة فى طريقها الطبيعى تتكلم وتبنى وتفكر وتتفنّن، الذى يحول بينك وبين البكاء يشقيك أكثر من البكاء نفسه، وربما كان البكاء سعادة أحياناً إذا كان تعبيراً حراً صادقاً منطلقاً بدون تزييف، ومثل هذا البكاء يسعد أكثر من الضحكة المغتصبة والابتسامة الصفراء.
- لقد بدأنا عبيداً للأرض وانتهينا عبيداً للأجر.
- كان الطاغية إذا أراد أن يشنق على راحته أطلق على المشنقة كلمة كنيسة وبدأ يشنق تحت ستار الدين والرب والوصايا العشر، وإذا أراد أن يقتل الفن أطلق عليه كلمة دعارة، وإذا أراد أن يخنق الفكر أطلق عليه كلمة إلحاد.