بقلم - خالد منتصر
فى ذكرى رحيل الأبنودى التاسعة، نحن ما زلنا نتعامل معه على أنه كاتب أغانٍ فقط، ومع عميق تقديرى واحترامى وحبى لهذا الجانب الجميل الرائع فى الأبنودى، إلا أننا لا بد أن ننتبه إلى الجانب البحثى الدؤوب فى شخصيته، والذى تجسّد فى توثيقه للسيرة الهلالية وحفظها من الضياع، ولكى نتعرّف على الحكاية وسر الاهتمام، سنسمعها منه فى أحد حواراته التى نُشرت سنة ٢٠٠٧ فى جريدة كويتية.
يقول الأبنودى: «كنت أذهب إلى مولد سيدى عبدالرحيم القنائى، وكان يستمر خمس عشرة ليلة، لأجلس تحت أقدام المنشدين وشعراء الربابة وأستمع إلى غناء «الغوازى»، وأشاهد فنون المسرح الشعبى، مما أضاف إلى تجربتى فى القرية تراثاً هائلاً أهدتنى إياه المدينة فى ذلك «الكرنفال» الذى كان يجمع أصحاب الألعاب الشعبية والغناء والأذكار والمدائح الدينية جميعهم، فصرت مهيّأً لأن أكون حارساً على هذه الثروة التى لا يلتفت إليها أحد.
ثم تعرّفت إلى الشاعرين جابر أبوحسين والحاج الضوى، والد سيد الضوى، والأخير هو الشاعر الذى يُقدم السيرة معه فى رمضان من كل عام فى بيت السحيمى. وبعد أن خُضت تجربة الاعتقال قرّرت أن أبدأ رحلة جمع ملحمة العرب الكبرى «السيرة الهلالية»، وأهدانى الراحل عبدالحليم حافظ جهاز تسجيل قوياً، كما أهدانى كمال الطويل مجموعة من الأشرطة، وبجنيهاتى وقروشى القليلة بدأت رحلات الجمع بعد نكسة 1967.
بدأت تسجيل السيرة من الأفواه كلها التى التقيتها، إلى أن منهجت قضية التسجيل نفسها وصحّحت مسارها فى الطريق. مذاك اتجهت خلف السيرة إلى كل مكان. فإلى السنوات التى أمضيتها أجمعها من أفواه الشعراء والرواة والحفظة العاديين فى صعيد مصر، اتجهت إلى «الدلتا» شمالاً، وحين انتهيت استطعت الحصول على النصوص السودانية والجزائرية والليبية، وكذلك نصوص من على حدود تشاد والنيجر لم أجمعها بنفسى، وإنما حصلت عليها من دارسين أو من مراكز فنون شعبية، ثم بدأت رحلاتى إلى تونس.
يضيف «الأبنودى»: «اكتشفت أن هذه الملحمة العظيمة «تلبد» فى رؤوس البسطاء وضمائرهم، واكتشفت أنهم يفسرون ظواهر الدنيا والدين والحياة السياسية المعاصرة بحسب ما قالته تلك الملحمة وما قاله الشعراء القدماء. من هذه اللحظة اتخذت حياتى منحى خاصاً فى السعى الدؤوب لاستكمال هذه الملحمة وجمع ما فى صدور الشعراء والرواة. وهناك قول شائع أننى أعطيت هذه الملحمة ربع قرن من عمرى، وفى الواقع أعطيتها أكثر من ذلك بكثير.
تكدّست لدىّ نصوص السيرة ولفّتنى حيرة قاسية: ماذا أفعل بكل ذلك؟ ما اضطرنى إلى دخول كلية اللغة العربية فى جامعة القاهرة، التى سبق أن هربت منها فى 1959، ولا أنصح أحداً أن «يلعبها بالمقلوب» مثلى، لكنى أريد أن أؤكد أن حب الأدب الشعبى يأتى أولاً ليملأ قلوبنا وعروقنا، ثم بعد ذلك تبدأ رؤيتنا له بمجهر العلم».
يمضى «الأبنودى» متذكراً: «كنت مؤمناً بأنه يجب إحياء «الهلالية» بالكتابة عنها وتقديمها إلى الناس وبأنها قادرة على العودة إلى الحياة، وقد كان، فأنت تجد «الهلالية» الآن على المسرح وفى التليفزيون، تُعقد لها الندوات وتثور المعارك حول صدقية ما قمت به طوال رحلة الجمع والنشر. أقول دائماً: أنا شاعر «كويس» لكن مصر ستُنجب ذات يوم من هو أفضل منى بكثير، لكن سوف يُذكر لى على الدوام أننى جمعت هذا العمل العبقرى الذى أبدعته قرائح شعبنا وحفظته من الضياع».