قال الرب «فى البدء كانت الكلمة»، فقالوا «فى البدء كان القتل»..
قال الرب «اقرأ»، فقالوا «اقمع واقتل واقصف قلماً»، فى السادسة والربع من مساء 8 يونيو 1992، فى هذا الشهر من ٣٢ سنة قالوا كلمتهم ومارسوا بربريتهم وقتلوا شهيد الكلمة فرج فودة.
التقرير الطبى قال إنه مات إثر نزيف فى الكبد، وكانت الحقيقة أنه نزيف فى كبد الوطن، سُئل الجانى، وكان يعمل بائع سمك، لماذا اغتلت فرج فودة؟ فردّ قائلاً: لأنه كافر.
وسُئل: من أى كتاب له عرفت أنه كافر؟ فقال: أنا لم أقرأ كُتبه. سُئل: كيف؟ رد بكل ثقة: أنا لا أقرأ ولا أكتب. حاول فودة تغيير المنكر بقلمه، ورفض رضاعة لبن النفاق، وكشف المسكوت عنه فى كتب التاريخ والتراث.. كل جريمته أنه مارس حق الحلم.. فلم يحتمل طيور الظلام وتجار وسماسرة الدين هذا الحلم فقتلوه، فحلَّ الكابوس محل الحلم، واحتل الرمل والجدب أرض الطمى والخصب.
فرج فودة كان «سيزيف»، بطل الإغريق الأسطورى، الذى ظل عمره يحاول أن يدفع بالصخرة إلى قمة الجبل، لكنها وهى تقترب من تلك القمة إذا بها تهبط إلى السفح ثانية، فيكرر المحاولة إلى ما لا نهاية، كان كالمسوق إلى قدره الحتمى، كان يواجه الموت كل يوم بالتهديد والوعيد وخناجر السباب الفاحش ورصاص التطاول البذىء، كان يواجهه بصدر عارٍ، بلا درع أو سيف.
رشّح فرج فودة نفسه مستقلاً فى دائرة شبرا، محروماً من أى دعم، ورغم ذلك كان مكتسحاً بحجته القوية وصلابته فى مواجهة الفاشية الدينية، لكن الدولة وقتها باعته وضحّت به على مذبح الفاشية الدينية وتحالفت مع المرشح المنافس، لأنه «راجل بتاع ربنا»، وفودة عليه كلام وعلامات استفهام! وفتحت بعد موته الباب على مصراعيه، احتل الإخوان أكثر من ثمانين كرسياً فى البرلمان.
تمّت الصفقة وسقط فرج فودة «العلمانى» فى الانتخابات، كما سقط من قبله لطفى السيد «الديمقراطى»!!، عندما قال الناس إن الديمقراطية هى العلاقات الحرام بدون زواج! وصدق الناس وقتها، ظل «فودة» يطل على الناس من خلال مقالاته وكتبه وندواته كلما تيسّر وسط حصار إعلامى مريب، بينما يطل تيار التخلف من خلال شاشات التليفزيون فى أوقات الذروة بشكل مكثف وإلحاح مقصود.
لم يدخل فرج فودة طوال حياته باب ماسبيرو إلا من خلال ربع ساعة مع المذيع أحمد سمير، تعليقاً على حادث إرهابى كانت الدولة تحتاجه وقتها لاستخدامه فى تلميع الصورة وإجراء عملية تجميل للضمير المترهّل، لكن دائماً كان اسمه مدرجاً على قائمة الممنوعات السوداء! حصار فى الحياة والممات يا فودة.
وبمناسبة ذكرى اغتيال فودة الثانية والثلاثين، كنت قد سجلت حلقة قديمة مع الشاعر أحمد عبدالمعطى حجازى فى برنامج «خارج النص» عن حادث الاغتيال، وطرحت عليه هذا السؤال: من الذى قتل فرج فودة؟ هل هو بائع السمك؟
أحببت أن أشارك قراء «الوطن» إجابته، قال حجازى:
«بالطبع لا.. ليس السمّاك من قتل فرج فودة، وفى تصورى السمّاك مقتول هو الآخر، ضحية لمن حرَّكه، فربما لو أدرك جُرمه وأحس بأى جرح أصاب به الوطن لقتل نفسه، رأينا شيخاً من هؤلاء الشيوخ فى المحاكمة دُعى للشهادة، قال إن فرج فودة يستحق القتل، والخطأ الذى ارتكبه القاتل أن جعل نفسه مكان الدولة، وكان يجب على الدولة أن تتولى قتل فرج فودة لأنه كان ينبغى أن يحاكم بتهمة الردة، وأن يموت، وكل ما فى الأمر أنه مات بيد السمّاك وليس بيد عشماوى الذى كان يجب أن يشنقه».
وقدّم حجازى قراءة لمشهد المحاكمة الذى رواه: «معنى ذلك أن القاتل الحقيقى ليس السمّاك، ولكن هو ذلك الفكر الذى نصّب نفسه حكماً، وأعطى نفسه الحق فى وضع الخطوط الحمراء والصفراء والخضراء، فهذا يمر، وذلك يقف، والآخر يكون بين المنزلتين.. هذه هى الكارثة، نحن نقرأ القرآن الكريم ونجد أنه «من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر»، وأن الذين يضعون أنفسهم فى محل المحاسب يغتصبون حق الإله، من يقرأ التاريخ يرى أنه عندما تتولى هيئة دينية تزعم لنفسها هذا الحق وتغتصب الحكم على الضمائر ينتهى كل شىء، والعالم يصبح فى ظلام وتتخلف البشرية».
انتهى كلام الشاعر حجازى، لكن هل انتهى التكفير؟! لا أظن.