بقلم - خالد منتصر
فى ذكراه أتذكر سحر الفنان، وجاذبيته، وصورته الذهنية، وإشعاع الغموض المقنن المحسوب، ومساحة الخصوصية غير المستباحة، وحاجز الزجاج الشفاف المصقول، الذى كان يفصلنى ويربطنى فى نفس الوقت بمعشوقى عبدالحليم حافظ، ويصنع هالة نورانية حوله كالقديس، ويجذبنى بمغناطيسه الكونى الهائل حتى أحط رحال جسدى المنهك وألملم أشلاء روحى المبعثرة على شاطئ حنجرته الفيروزى الصافى.
عندما دخلت كلية الطب وتمدد أمامى العندليب على طاولة التشريح والفسيولوجى والباثولوجى وعلوم الجراحة أحسست بأن شرخاً أصاب هذه الصورة السحرية، ورفع عنها غلالة الألق، وأجبرنى على التعامل مع «حليم» كرقم فى ملف، وحالة فى مرجع، وCase فى امتحان شفوى، لا بد أن أحفظ تفاصيلها حتى أحصل على درجات أكبر، بعدما دخلت كلية الطب كانت سيرة عبدالحليم حافظ تطاردنا فى معظم دروس الجراحة والباطنة كأهم موديل وأشهر نموذج لمريض البلهارسيا التى تتطور إلى حالة الـHepatosplenomegaly، تليف الكبد وتضخم الطحال ودوالى المرىء.
والمهم لدينا كطلبة أن هذه الحالة بمائة درجة فى الشفوى، وأنها ستحدد مستقبل تفوقك وتعيينك فى الكلية، إما أن تصبح أستاذا فى كلية الطب أو تظل تلطم الخدود فى وحدة صحية نائية على حدود الوادى الجديد!عرفنا رحلة المعاناة الحليمية التى تم فيها تقطيع وبتر وحقن هذا الجسد النحيل منذ طفولته فى «الحلوات» عندما استقبلت أوردته المهترئة «حُقن الطرطير»، وحتى عينة الكبد التى مات على أثرها بنزيف حاد فى «كينجز كولدج»، ولكننا كطلبة كنا نتعامل معه كحالة فى سكشن بمنتهى البرود والحيادية، كنا نحن طلبة الطب «اللى لسه ماطلعناش من البيضة» نسمع من أساتذتنا الأسماء الرنانة المصرية والعالمية التى عالجت «عبدالحليم»، وكأننا نسمع نداءات باعة متجولين، لم نكن نقدر حق القدر من هو د. مصطفى قناوى، د. ياسين عبدالغفار، د. زكى سويدان، د. هشام عيسى، د. تانر، الدكتورة شيلا شارلوك، د. ويليامز، د. رونالد ماكبث، د. سارازان فرنسا، وغيرهم من عمالقة ورموز ورواد الطب فى العالم، كنا نشاهد صوره وهو يطعم الحمام فى لندن أو يرتدى العباءة فى المغرب أو ينظر إلى برج إيفل فى باريس ونحسده ولا نعرف أن كل هذه الصور هى استراحات من رحلات مستشفى ابن سينا بالمغرب، ومستشفى سان جيمس هيرست، ولندن كلينك، ومستشفى كنجز كولدج فى إنجلترا، و«سالبتريد» بالعاصمة الفرنسية باريس، وعندما دخلنا فيلم «أبى فوق الشجرة» كنا مغرمين بعدد القبلات، ولم نعر اهتماما بعدد الغرز والعمليات الجراحية التى شقّت بطنه والتى تحولت إلى «بازل» بشرى، وحوّلت جلده إلى مصفاة، كانت هذه التشوّهات الجراحية مثار شجار بينه وبين المخرج حسين كمال الذى أصر على ارتداء حليم المايوه الذى فضح جراحه وضعفه الإنسانى وبطنه المنتفخ بالاستسقاء!
درسنا عملية «تانر» الشهيرة التى استسلم لها «حليم» ليحل مشكلة نافورة الدم التى تنفجر من الدوالى، وتهدده بالموت كل لحظة، كنا نحفظها عن ظهر قلب كمن يحفظ ويردد ألفية ابن مالك قطع معدة وخياطتها من تانى مع استئصال طحال علشان أقلل ضغط الوريد البابى، وعندما كنا نسأل أستاذ الجراحة بلهفة: «يعنى كده عبدالحليم خف؟»، كان يجيب بمنتهى الحسم: طبعاً لأ، هى مسألة شهور والدم هيلاقى سكة تانية وينفجر وينزف وتبدأ عجلة الموت فى دورانها من جديد، فى السكشن التالى يدخل الأستاذ ليستكمل قصة ومسلسل العندليب، قائلاً: «فاكرين مستر تانر اللى اتكلمنا عليه المرة اللى فاتت؟»، فنرد: «طبعاً فاكرينه»، يومئ برأسه بانتشاء: «النهارده هنتكلم عن مستر وارن، وعملية وارن - سلام اللى كان هيعملها عبدالحليم وكانت هتنقذه». وعندما نتساءل: «وبتقول كان ليه؟»، فيرد بتقريرية: «لأن العملية توصيل وريد طحال بوريد الكلى الشمال ومفيش طحال أصلاً»، ولكن روجرز اقترح عليه عملية شبيهة، تنفسنا الصعداء: ها هو حليم أخيراً سيجد الحل والراحة، ولكن سرعان ما أحبطنا الأستاذ: «بس العملية دى ليها مضاعفات، إنها ممكن تطلع سموم الكبد والغيبوبة الكبدية على المخ وتفقده تركيزه وتحرمه من الغناء، علشان كده حليم رفض».
ومن أستاذ الجراحة لأستاذ الباطنة الذى قال لنا: «عبدالحليم معندوش بلهارسيا بس، ده عنده فيروس لا هو A ولا هو B»، كمان هو ناقص، بعدها عرفنا أنه الملعون سى. قبل أن يرحل «حليم» عن عالمنا كان زرع الكبد فكرة جديدة، وكان كبد عبدالحليم كقطعة إسفنج مهترئة وكانت المغامرة، عينة كبد لتقرير صلاحية الحالة، نزيف لا يتوقف، بركان هادر من الدم أسلم بعدها الروح، بكيت على العندليب الذى كانت حنجرته الحارس وكبده المتهم، بكيت على أننى كنت نفعياً وانتهازياً معه كطالب طب يريد أن يعبر الامتحان بتحويل العندليب إلى مجرد حالة، الآن أُكفّر عن ذنبى وذنب الطب الذى قصّر معه وتأخر بالاعتذار له ولكل الفنانين الذين لم نتسامح مع عبقريتهم وجنونهم وجموحهم وآلامهم.