بقلم - خالد منتصر
دائماً ما يُطرح هذا السؤال مستنكراً أن يأتى نجيب محفوظ آخر إلى الحياة الأدبية المصرية، لكن ما قرأته من روايات فى الفترة الأخيرة يثبت أن مصر ولادة وأن الروائيين المصريين يطرقون أبواباً جديدة ويقتحمون عوالم بكراً طازجة ويجربون أساليب كتابة وبلاغات متميزة ومتفردة، سأستعير بعض ما كتبته من ملاحظات عن ثلاث روايات فقط من حصيلة الأسابيع الماضية: أولاً، عن رواية كاتيوشا لوحيد الطويلة، الرواية الجيدة هى التى تمسك بتلابيبك منذ الجملة الأولى، وتطاردك من أول عبارة، وتتلبسك منذ الصفحة الأولى، وتصير معك كالتوأم الملتصق حتى تنتهى من آخر حرف فى آخر صفحة، رواية «كاتيوشا» للروائى وحيد الطويلة حققت تلك المعادلة الصعبة.«أحب واحدة غيرك.. صديقتك» قالها الزوج الروائى الشهير لزوجته بغتة وهو يقود سيارته إلى مطار القاهرة.
انهارت، وفى نوبة هستيريا مسكت بمقود السيارة فانقلبت ودخل الزوج فى غيبوبة. وبدأت البحث فى دفتر جرد الصديقات. وانتهت الرواية بانعكاس الموقف، فقد استيقظ هو ودخلت هى فى غيبوبة بعد إصابتها فى حادث وهى فى الطريق إليه، رحلة البحث عن صديقتها التى خانتها مرت بأربع درجات من سلم الشك الحارق.
وأثناء السرد عبّر وحيد الطويلة على لسان الراوية «مشيرة» الزوجة المغدورة عن دقائق وتفاصيل أنثوية ومشاعر امرأة مجروحة بمنتهى الدقة والصدق والبراعة لدرجة مدهشة أعتقد أنها لم تتكرر كثيراً فى الرواية العربية.
ثانياً، «الصنادقية» ليوسف الشريف:«مصر ولادة»شاب عنده ٢٣ سنة يكتب رواية بتلك الرؤية والنفاذ إلى العمق، وبذلك الإيقاع اللاهث الساخن، يجعلك تهتف حقاً مصر ولادة.شاب من الجمالية، حيث عاش نجيب محفوظ، وكأنه استمد عبق المكان وعين الأستاذ النافذة النفاذة.
الصنادقية مكان تطل منه على أحشاء مصر التى كانت وأصبحت، والرواية أشعة مقطعية لتلك الأحشاء والأنسجة: شيخ اختفى من الحارة، وتاجر آثار قُتل، وسلفى انتحر.تتجمع الخيوط بشكل روائى جديد ومتفرد. فى الخلفية عالم يوسف شاهين الحالم الكاشف الغامض المتلعثم، وفى تلك الجدارية الموزاييك يطل الجنس بكل شبقه وقسوته وسخونته وتنوع عالمه واختلاف أطيافه.
ثالثاً، «شارع بن يهودا» لأيمن السميرى:أن تتجمد دمعة شجن وأنت تقرأ رواية، وأن تحس بملح الدمع ومرارته فى قلبك وأنت تتصفحها، فإنك حتماً أمام عمل روائى كبير وصادق، عمل يخدش بلورة الحقيقة المدهشة ومعها يخدش كل طبقات الشرنقة التى تحاول بها التواؤم مع العبث وأقنعة التنكر التى تجعلك مقبولاً فى حفل الزار التنكرى الجماعى، رواية «شارع بن يهودا» للكاتب أيمن السميرى، الصادرة عن دار الرواق، هى واحدة من تلك الروايات التى تُمسك بتلابيب روحك من أول سطر ولا تتركك إلا واقعاً فى غرامها مع آخر سطر، التهمتها فى وجبة واحدة لأننى وجدت جيلى الحائر صاحب الآمال المؤجلة يطل من بين السطور.
شاهدت شريطاً سينمائياً سريعاً للوطن من خلال عائلة غالب والراوى على حسن غالب الشاهد على هزيمة ثلاث أجيال متعاقبة من عائلته، طابور يتساقط كل فرد فيه كبيت كارتونى أثناء زلزال وهو يشاهد حلمه سراباً ووهماً كاذباً، الجد غالب الذى حضر الملكية ثم هيئة التحرير والاتحاد الاشتراكى، وكان المرشحون لا يستطيعون الاستغناء عن خدماته، ظل حتى النفس الأخير هو والجدة أمينة التى اشتهرت فى قرية ميت كردون بأن دعاءها مستجاب، ظلا ينتظران عودة الابن عز العرب من حرب اليمن ليفتح صندوقه المغلق الذى يحتفظ به فى حجرته، الأب حسن غالب درويش اليسار العاشق لعبدالناصر والذى يفخر بأنه قد صافحه هو وكوسيجين، حسن الذى تم أسره فى حرب 67 فى معسكر عتليت الإسرائيلى، ظل يحلم حتى انتهى به الحال بتسريحه من عمله والعمل حارساً فى دار النشر الإسلامية التى يمتلكها زوج ابنته الإخوانى، الأم غالية التى يعشقها على وينسى فى حضنها عاهته التى وُلد بها، العرج الذى لم يتخلص منه إلا بجراحة فى أمريكا، كان عرجاً نفسياً قبل أن يكون عضوياً، هزمه داخلياً واستعاده فى نهاية الرواية.
هذا المهزوم الذى وُلد فى قرية مهزومة فى صراع بين فكى كماشة المماليك والصليبيين، كانت نهاية الصراع إعدام ثمانية أشقاء من الوجهاء، حفيد لجد أسد فقد أسنانه، وأب هُزم فى كل حروبه وانكسر فى جميع طموحاته، حتى شلته كانت تجتر الهزائم المزمنة، جورج الحائر بين ورشة سدراك والهجرة لبلاد الأحلام، والصحفى الراوى اليسارى الذى يراهن على الإسلاميين!
أحب على لبنى طالبة كلية طب المنصورة، بنت الأكابر وشقيقة ضابط الحراسات الخاصة لمبارك، التى خرجت من تجربة طلاق ثرى عربى مريرة، كان ثمن هذا الحب انسحاق كرامة وتلفيق تهمة من عائلة لبنى الواصلة، كسب فى يانصيب الهجرة لأمريكا بعد أن حصل على تجربة ثرية فى مكتب المحاسبة المملوك لعبدالقادر شعير نجم الحزب الوطنى، وشركة فريد جميعى للنسيج التى ترتبط باتفاقيات مع إسرائيل، والتى منها سافر إلى تل أبيب لعقد اتفاقيات شراكة، هناك فى أمريكا صعد من الصفر، وعالج عرجه النفسى والعضوى، وتخيل أنه قد هزم هزيمته، لكنه سرعان ما اكتشف أن هزيمته وشم أبدى، فقد كل من أحبه ولم يودعهم، الجد والأب وريما التى نهشها السرطان والتى عينته فى الشركة وأحبته كشقيقها اللبنانى الذى فقدته فى الحرب، وفى النهاية تركته تمار اليهودية العلمانية زميلته فى أمريكا، وانتهت الرواية وهو فى وسط ميدان التحرير فى يناير فاقداً للبوصلة، مستعيداً عرجه القديم.