بقلم :عبد الله السناوي
بحس الروائى العظيم التقط «نجيب محفوظ» فى «بداية ونهاية» شخصية الملازم «حسنين»، الشقيق الأصغر فى أسرة فقدت عائلها فجأة، وتدهورت أحوالها إلى حدود الفقر المدقع.
توافرت فى شخصيته قوة الدراما، فهو تحت ضغط الحاجة والشعور بالحرمان حاول أن يجد خلاصه الفردى، لكن عبء عائلته حاصره حتى اضطر فى النهاية إلى الانتحار، عندما وجد عالمه كله ينتهى.
من الناحية التاريخية أهمية الرواية فى توقيتها ــ حيث نشرت لأول مرة عام (١٩٤٩) ــ والحرب تضع أوزارها، وكان «محفوظ» قد شرع فى كتابتها قبل أن تدخل القوات المصرية فلسطين.
لم تكن السياسة من شواغل عائلة «حسنين»، فقد استغرقتها أزماتها «فلم تترك نصيبا للوطنية».
«إن الأوطان تحيا بدم الأبطال».. قال لأمه المجزوعة من موت ضحايا المظاهرات من الطلبة، لكنه توقف عن حديثه الحماسى برمقة عين.
التقط «محفوظ» من حركة الحوادث وتداعياتها مادته التى جسدها فى بشر من لحم ودم ودموع ونبوءات.
«ثم جدت أحداث فتكونت الجبهة الوطنية، وشرع فى المفاوضات، وانتهت المفاوضات إلى الاتفاق، وسرى فى البلد ارتياح».
كانت تلك مقدمات دخول «حسنين» الكلية الحربية.
لم يكن ممكنا من قبل لمن هم فى وضعه الاجتماعى أن يخطر ببالهم دخولها.
رغم كل الانتقادات التى وجهت لاتفاقية (١٩٣٦)، التى وقعها زعيم «الوفد» «مصطفى النحاس»، وألغاها بنفسه عام (١٩٥١)، إلا أنها سمحت لأولاد المصريين من الطبقة الوسطى الالتحاق بالكلية الحربية.
«أرأيت أن الأرواح التى زهقت لم تذهب سدى».
قال «حسنين» لوالدته.
«هيهات أن يعوض شىء عن هلاك روح شابة».
«لقد عشت يا أماه نصف قرن فى ظل الاحتلال، فندع الله أن يمد لنا فى عمرك نصف قرن آخر فى كنف الاستقلال».
«احتلال، استقلال، لا أدرى أى فرق بينهما، خير لنا أن ندعو الله أن يكشف لنا الغمة، وأن يبدلنا من عسرنا يسرا».
«لو لم يكن الاحتلال لما تركت أسرتنا بعد موت أبى بلا معين».
كادت أوضاعه المادية المزرية تحول تماما دون ذلك الالتحاق، لولا وساطة صديق موسر لوالده ومساعدة شقيقه الأكبر «حسن» فى دفع أول دفعة من المصروفات المطلوبة، فهو لم يفتقد رغم سجله الإجرامى عطفه على عائلته التى تركها خلفه تعانى العوز المفرط.
«عشرون جنيها؟.. إن جيشنا كله لا يساوى هذا المبلغ!.. هل تنوى الالتحاق بمدرسة اللواءات؟»
تلك النظرة السلبية لها جذور فى التاريخين القديم والحديث معا.
قديما كاد يمتنع عن الفلاحين المصريين الالتحاق بخدمة الجيش.
وحديثا لم يتم دمجهم مرة واحدة وتعرضوا للتهميش والتمييز.
كانت تلك الأوضاع على رأس الأسباب الجوهرية للثورة «العرابية»، أولى ثورات العصر الحديث، التى يطلق عليها فى بعض الأدبيات ثورة «الفلاحين».
عندما شرع «محمد على» فى تأسيس الدولة الحديثة عام (١٨٠٥)، استند على ركيزتين أساسيتين.
أولاهما ــ بناء جيش قوى يستطيع أن يلبى طموحه فى تثبيت حكمه، والتطلع إلى خارج الحدود منازعا الخلافة العثمانية وربما وراثتها.
وثانيهما ــ إرسال بعثات تعليمية تتلقى العلوم الحديثة من الجامعات الأوروبية، حتى يمكن التطلع إلى تحسين جوهرى فى أداء المهام العامة.
لم تحظ الركيزة الأولى ــ فى وقتها وظروفها ــ بأية شعبية بالنظر إلى أعمال السخرة، التى رافقت تجنيد أولاد الفلاحين، حيث أرسلوا فى بعض الأحوال إلى مناطق بعيدة كالمكسيك دون أمل فى عودة.
بفضل الثورة العرابية أخذت الجندية معنى مختلفا، وطنى ومقاوم، بغض النظر عن الأخطاء التى ارتكبت.
عندما انكسر «عرابى»، واحتلت مصر، لم يكن ممكنا لعقود طويلة الحديث عن أية قوة عسكرية مصرية.
فى كل الثورات والانتفاضات الحديثة تصدر الجيش مشاهدها بصورة أو أخرى باستثناء ثورة (١٩١٩)، لأن مصر كانت تحكم بحراب الاحتلال البريطانى.
كانت اتفاقية (١٩٣٦) نقطة تحول فى الحياة العامة اكتسبت زخمها فى ميادين القتال بفلسطين لا بمنطق نصوصها.
«هل حقا ما يقال عن احتمال سقوط الوزارة؟».
وكان رد الملازم «حسنين»: «غير مسموح للضابط بالاشتغال بالسياسة».. و«لا شأن للجيش مع المظاهرات».
لم يكن الشأن السياسى العام من شواغل الملازم «حسنين»، وهو نفسه غير مستعد للتضحية من أجل أية قضية.
غير أن المؤلف الملهم أجرى على لسانه عبارة حكمت المستقبل البعيد فى يناير (٢٠١١):
«إذا قامت ثورة فلا بد من تدخل الجيش».
لم يكن الملازم «حسنين» شريرا بالفطرة ولا بطلا بالتصرف، هو ابن ظروفه وضحيتها.
كانت حرب فلسطين زلزالا أعاد الجيش وسط حممه اكتشاف هويته الوطنية وعقيدته القتالية.
تحت وهج النيران فى فلسطين ولد جيل جديد من الضباط الوطنيين وتوارت إلى حد كبير صورة الملازم «حسنين».
كانت تلك آخر رواية كتبها أديب العربية الأكبر قبل ثورة «يوليو»، وبدت بأبطالها وحوادثها أقرب إلى نبوءة تستمد من عنوانها: «بداية ونهاية».
قبل هزيمة يونيو (1967) حذر «محفوظ» من خطر محدق يوشك أن يقع بأثر أخطاء وتجاوزات من داخل النظام.
فى عام (1966) نشر روايته «ثرثرة فوق النيل».
«ما معنى هذه الرحلة؟».
«المهم الرحلة لا المعنى!».
السؤال القلق، الذى جرى على لسان «أنيس زكى»، الذاهل ليلا ونهارا بأثر المخدرات، والجواب بعبث من سائق السيارة المسرعة على الطريق قبل أن ترتطم بمجهول وترديه صريعا بغير ذنب، هما صلب الرواية بما حملته من إشارات تنبئ وتحذر.
معانٍ نقدية مقاربة تضمنتها رواية «ميرامار»، التى نشرت فى عام الهزيمة.
المثير أن الروايتين درستا فى «منظمة الشباب الاشتراكى»، وجرت حوارات مفتوحة حولهما فى سنوات ما بعد «يونيو».
رغم ما هو معروف عن أديب العربية الأكبر من انتقادات وتحفظات على تجربة «يوليو»، فإنه لم يكن معاديا لها.
قرب نهاية حياته الطويلة كتب حلما من ضمن «أحلام فترة النقاهة» ــ آخر أعماله الروائية.
كانت الأحلام تخطر له فى منامه، يحفظها ويمليها، وهو لا يكاد يستطيع أن يحرك يده، أو يرى جيدا ما حوله:
«وجدتنى مع الرئيس عبدالناصر فى حديقة صغيرة وهو يقول:
لعلك تتساءل لماذا قلت مقابلاتنا، فأجبته بالإيجاب.
فقال: كلما شاورتك فى أمر جاءت مشورتك بالاختلاف كليا وجزئيا، فخفت أن تتأثر صداقتى لك بهذا الموقف. فقلت: أما أنا فلن تتأثر صداقتى لك مهما اختلفنا».
لم يكن «نجيب» صديقا لـ«عبدالناصر»، غير أنه فى لحظة مكاشفة أخيرة اعتبره صديقا لا يؤثر على محبته اختلاف رأى.