بقلم :عبد الله السناوي
قبل خمسين سنة بالضبط بدت الانتفاضة الطلابية، التى عمت الجامعات المصرية فى يناير (1972)، إيذانا بميلاد جيل جديد أطلق عليه جيل السبعينيات.
سرت روح مختلفة فى حركة المجتمع وتبلورت تيارات سياسية كأنها ميلاد جديد.
وجد الغضب فى أوساط الطلاب تعبيره السياسى فى تيارين رئيسيين.
أولهما ـ «التيار الماركسى» الذى بدأ فى إعادة ترتيب صفوفه وبناء تنظيمات جديدة على أطلال ما جرى حله فى الستينيات، وكان صوته مسموعا فى الجامعات المصرية.
وثانيهما ـ «التيار الناصرى»، الذى لم يكن قد تبلورت له رؤية تتعدى المطالب الوطنية العامة، وكان جمهوره عريضا لكن بلا تنظيم يقود طاقة غضبه.
كانت «منظمة الشباب الاشتراكى»، أفضل صيغة تنظيمية وفكرية قدمتها ثورة «يوليو»، تعانى ضغوطا متواصلة انتهت بتصفيتها بعد أن اكتسح آخر انتخاباتها الناصريون الجدد المعارضون لخط «أنور السادات».
قرب نهاية (١٩٧٤) أعلن لأول مرة طلاقا سياسيا نهائيا مع أى رهانات على نظام «أنور السادات»، وخرجت قيادات جديدة من أوساط الطلاب تناهضه بلا هوادة.
ككل فعل فى التاريخ فإن له ردة فعل.
أمام حملات الهدم تحركت روح جديدة تنتسب إلى مشروع «عبدالناصر» لا نظامه، تنظر إليه كمثل أعلى لكن لا تقدسه، وتعلمت بالوقت ضرورات نقد تجربته من موقع الالتزام بمشروعها.
لم يكن بوسع المجموعة الضيقة التى أسست «نادى الفكر الناصرى» بجامعة القاهرة فى ديسمبر (1974) أن تتوقع الأثر المستقبلى بالغ الأهمية بأى معنى سياسى أو تاريخى لما قرروه.
كانوا مجموعة من الشبان اليافعين، تجاوز أغلبهم العشرين من أعمارهم بالكاد، لم تكن لهم خبرة تنظيمية سابقة تضارع ما لدى التيار الماركسى، ولا امتداد خارج أسوار الجامعة.
بدوا تعبيرا عن حالة غضب تبحث عن طريق جديد يُنهى أية أواصر مع نظام الحكم، ويعلن انتقال الناصرية إلى الشارع.
بعد وقت قصير اتصلت حركتهم بما حملته من روح راديكالية مع ناد سياسى آخر فى جامعة عين شمس، وهو أول ناد فى الجامعات المصرية.
كان الناصريون فى جامعة عين شمس يمسكون بمقاليد اتحادها، ويتداولون رئاسته بالنظر إلى قوة «التنظيم الطليعى» فيها.
عندما حل التنظيم بعد أحداث مايو (1971) ظلت مجموعته فى جامعة عين شمس متماسكة، وواصلت أدوارها فى ظروف معاكسة.
أفضل ما يُنسب للنادى السياسى فى جامعة عين شمس أنه نظم على مدى سبع سنوات متصلة ما كان يطلق عليه «لقاء ناصر الفكرى».
فى البداية لم يكن ذلك اللقاء السنوى أكثر من تجمع احتفالى يمتد لثلاثة أيام يتذكر «يوليو» وإنجازاتها، ويحضره كبار المسئولين فى الدولة، عندما تحل ذكرى رحيل «جمال عبدالناصر» فى (٢٨) سبتمبر من كل عام.
بسريان الروح الجديدة واتساع مجالها فى الجامعات المصرية تغيرت طبيعته إلى منصة معارضة صريحة للسياسات التى يتبعها نظام الحكم.
أنشئت أندية مماثلة فى الجامعات المصرية حملت اسم «نادى الفكر الناصرى».
جرى تنسيق وحوار بين هذه الأندية شمل قيادات عمالية لها كلمة ونفوذ وقيادات فى منظمة الشباب، رأت أن القطيعة محتمة، وأن حل المنظمة نفسها مسألة وقت.
لم يمض وقت طويل حتى أحكم الناصريون الجدد سيطرتهم على اتحاد طلاب جامعة القاهرة، وبسطوا هيمنتهم على اتحاد طلاب الجمهورية (١٩٧٦) قبل الانقضاض على لائحته الديمقراطية بعد انتفاضة «الخبز» عام (١٩٧٧).
كان أول سؤال طرحوه على أنفسهم:
من نحن؟.. وماذا نريد؟
سادت خطابهم نبرات الاحتجاج على ما يحدث.
بالتعريف: كانوا حركة احتجاجية، تجتمع بالاحتجاج، وتفرز بالاحتجاج، وتنظم نفسها بالاحتجاج.
كانت المعركة السياسية الأولى للتيار الوليد ما أطلق عليه: «ملف عبدالناصر» ــ على حد التعبير الذى شاع فى ذلك الوقت.
لم يكن ذلك خيارا ضمن خيارات.
كان الميلاد إجباريا بقوة رد الفعل.
غاب ما كانت تحتاجه مصر من حوار حول التجربة الناصرية، وسادت رغبة الانتقام من مشروعها قبل أى شىء آخر، فالنظام كان قد سقط من داخله.
مال الناصريون الجدد إلى ما يمكن أن نطلق عليها «الدفاع النشط»، حيث الرد بالأرشيف وإظهار حجم التناقض فى المواقف باختلاف العصور.
بالفعل ورد الفعل جرت معارك ومساجلات حول بناء السد العالى وتأميم قناة السويس، ودور القطاع العام والإصلاح الزراعى وحرب (١٩٦٧) وسادت روح الدفاع بيانات وتجمعات الجيل الجديد.
احتاج الناصريون الجدد إلى وقت أطول لإعادة النظر فى التجربة ومواطن ثغراتها، التى سمحت بالانقضاض عليها.
السياق ضرورى لفهم الظاهرة الشابة.
بدأت تظهر فى أوراق الناصريين الجدد دعوات لتطبيق «قانون من أين لك هذا؟» على كل من تولى مواقع المسئولية منذ ثورة «يوليو»، وتثبيت أسعار السلع الأساسية ورفع الحد الأدنى للأجور مع تثبيت الحد الأقصى لها عند مستواه فى مايو (١٩٦٧) وتأميم قطاع تجارة الجملة والمقاولات، وقصر الاستيراد على الاحتياجات اللازمة لتشغيل القطاع العام، وإسقاط جميع الديون عن كل الفلاحين.
كان مستلفتا فى ذلك البيان الذى أصدره نادى الفكر الناصرى الإشارة إلى «إلغاء كل القوانين الاستثنائية المعطلة للحريات مثل قانون الوحدة الوطنية وقانون المدعى الاشتراكى وإطلاق حرية الكلمة».
الإشارة ــ بذاتها ــ تومئ إلى نوع من التزاوج الفكرى والسياسى المبكر فى الجيل الجديد بين طلبى العدل الاجتماعى والحريات العامة.
بالتدريج مال الناصريون الجدد إلى تجديد فى الخطاب ونقد تجربة «يوليو» من داخلها ودمج قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان فى صلب مشروعهم الفكرى بجانب قيم التحرر الوطنى والعدل الاجتماعى.
لم تكن تلك رحلة فكرية سهلة لكنها كانت ضرورية فى كل حال.
منحت الحركات الطلابية مصر أغلب نخبتها السياسية على مدى عقود متصلة بأكثر مما ينسب للأحزاب السياسية مجتمعة، باختلاف مشاربها الفكرية.
حيث حرية التفكير والاعتقاد السياسى تبنى النخب عن اقتناع حقيقى، وتترسخ القيم الوطنية العامة.
النخب السياسية لا تولد من فراغ ولا بقرار من سلطة.
بأية نظرة إلى الأصول السياسية للنخب المصرية المعاصرة فإن غالبيتها تعود إلى إرث الحركة الطلابية المصرية.
حاول «السادات» فى السبعينيات إجهاض حركة اليسار بجناحيه الناصرى والماركسى، واستخدم الجماعات الإسلامية فى فض التجمعات السياسية والحفلات الفنية بالمدى والجنازير، لكن الفكرة كانت أقوى من العنف والحلم أبقى من السلطة.