بقلم :عبد الله السناوي
منتصف سبعينيات القرن الماضى خطر للرئيس «أنور السادات» أن يحتذى تجربة الجنرال الإسبانى «فرانشيسكو فرانكو» فى نقل السلطة بعده إلى «خوان كارلوس» سليل عائلة «البوربون» الملكية.
بتوقيت مقارب التقى «أحمد فؤاد» سليل عائلة «محمد على»، الذى ولد فى يناير (1952) بالأيام التى سبقت مباشرة حريق القاهرة ونزول الجيش لأول مرة فى التاريخ الحديث لضبط الأمن فى الشوارع المروعة.
أهداه سيف جده «محمد على» مؤسس العائلة الملكية المصرية، كانت تلك إشارة رمزية دوت وقتها فى الحياة السياسية.
وأمر أن تكتب صفته فى جواز سفره المصرى «ملك مصر السابق»، وكانت تلك إشارة رمزية أخرى على نزوعه لاستنساخ التجربة الإسبانية.
لم يكن ذلك ممكنا بقدر الفوارق بين الجيشين المصرى والإسبانى، فالأول، جمهورى بحكم الدور الذى لعبه بعد (23) يوليو.. والثانى، ملكى بحكم إرثه فى الحرب الأهلية.
بقوة الحقائق السياسية تبخرت الأهواء سريعا حتى أعادت إنتاج نفسها فيما يشبه الهزل بأوقات أزمات دولية وإقليمية واجتماعية تتهدد البلد فى وجوده ومستقبله.
فى زيارته الأخيرة تبدت حالة احتفاء زائد بـ«أحمد فؤاد» نجل الملك السابق «فاروق» وولى عهده فى نوادى النخبة الاجتماعية كـ«نادى الجزيرة» وبعض المزارات الأثرية والتاريخية.
نودى بـ«جلالة الملك»، وصف بأنه كان بسيطا فى الحديث مع مستقبليه، دون أن يذكر أحد اللغة التى تحدث بها!
قيل إنه «تفقد» الأماكن التى زارها وأبدى بعض الملاحظات، دون أن يخبرنا أحد بأية صفة!
ما معزى ما حدث؟!
عندما برز سيناريو توريث الحكم من الأب (حسنى مبارك) إلى ابنه (جمال) تردد فى المجال العام: «إذا كان الأمر توريثا فإن أحمد فؤاد أولى!».
بأى نظر موضوعى ومنصف فإنه مواطن مصرى من حقه أن يتحرك وأن يبدى رأيه فى الشأن العام دون أى ميزة على أى مواطن آخر.
لم يتقلد أبدا منصب «مليك البلاد» حتى يوصف بالسابق، فقد عزل والده وهو فى الشهور الأولى من عمره، وضع تحت الوصاية لفترة محدودة قبل إلغاء الملكية وإعلان الجمهورية (1953).
الإلحاح على الأوصاف لافت بذاته والاحتفاء الزائد داع للتساؤل.
كانت واحدة من المآسى السياسية والإنسانية فى قصة مصر قبل يوليو (١٩٥٢) أن الملك «فاروق» افتقد الحد الأدنى من الرشد فى إدارة الشأن العام، استغرق فى الانقلابات الدستورية، وافتقد نظام الحكم أى استقرار فى لحظة قلق عامة بعد الحرب العالمية الثانية، والنار تحت الرماد بعد نكبة فلسطين.
كان «فاروق» ضحية ما حوله وضحية نفسه.
هذه حقيقة تثبتها شهادات بلا حصر لرجال عملوا معه، أو اقتربوا منه.
ولم يكن لنجله «أحمد فؤاد» أى ذنب يحسب عليه.. ولا أية ميزة تحسب له.
عندما ولد ابتهج القصر الملكى وأخذ يغدق بالهدايا على الذين ولدوا فى نفس اليوم، (16) يناير، غير أن الحوادث العاصفة أفسدت على الملك ابتهاجه بميلاد ولى عهده.
كان حريق القاهرة فى (٢٦) يناير (١٩٥٢) إنذارا أخيرا بما هو آتٍ.
فى اليوم السابق تصدى ضباط وجنود الشرطة فى الإسماعيلية بأسلحة بدائية لقوات الاحتلال البريطانية رافضين تسليم مواقعهم.
أفضت الواقعة بما حملته من استهانة بريطانية وما عبّرت عنه من شجاعة مقاومة إلى إضراب عام فى العاصمة لـ«بلوكات النظام».
تداعت الأحداث بعده إلى حرائق فى قلبها.
أفلت النظام العام وسادت الفوضى وعمليات النهب والتخريب فيما كان الملك يحتفى بميلاد ولى عهده وسط أركان حكمه.
فى أجواء النهاية قاد القصر حملات ممنهجة ضد «الوفد» وزعيمه «مصطفى النحاس»، وتولت صحيفة «أخبار اليوم» ــ كما هى العادة ــ مهمة التشهير.
بالمفارقة أمعنت نفس الصحيفة فى التشهير بالملك ولياليه ومباذله بعد (٢٣) يوليو، وخلطت على نحو ذريع بين الحقائق والشائعات ــ كما كتب رئيس تحريرها «مصطفى أمين».
وبمفارقة ثانية حاول كُتاب صحفيون من نفس الجيل عارضوا الملك فى عز قوته، أن يرووا بأكبر قدر ممكن من التوثيق والموضوعية قصته، وكيف وصل إلى النهاية ـ كما كتب «أحمد بهاء الدين» بحس فنان وعقل مؤرخ و«محمد عودة»، بما توافر لديه من وثائق وشهادات وقدرة على التأريخ.
بمناسبة مرور خمسين سنة على ثورة يوليو طرح «محمد حسنين هيكل» سؤالا جوهريا، تضمنه كتابه «سقوط نظام»: «لماذا كانت ثورة يوليو ١٩٥٢ لازمة؟»
أتاحت له مجموعات الوثائق البريطانية والأمريكية ومذكرات وشهادات أبطال المرحلة أن يُعيد بناء القصة من جديد بأكبر قدر ممكن من التحرى والتدقيق.
الأكثر إثارة فى ذلك الكتاب الموثق أنه تطرق موسعا إلى خفايا ما كان يحدث فى القصر الملكى، مسجلة على شرائط بصوت وكيل الديوان الملكى «حسن يوسف»، الذى عمل فى مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بمؤسسة «الأهرام»، خلال رئاسة «هيكل» مسئولا عن وحدة التاريخ الحديث.
كانت تلك شهادة مسجلة كـ«وديعة تُنشر بعد عدد من السنين»، حسب اتفاق بين الرجلين بحضور «عبدالفتاح عمرو»، وهو واحد من أقرب أصدقاء «فاروق» وسفيره فوق العادة فى لندن.
قدر «هيكل» أن مرور خمسين سنة على ثورة «يوليو» تكفى وتزيد للبوح ببعض ما تضمنته الشهادة المسجلة، لكنه ترك الأصل بصوت وكيل الديوان الملكى للأجيال القادمة، قبل أن تلتهمه ــ ربما ــ حرائق برقاش.
من دواعى الدراما فى تلك الفترة المتقلبة، أن الملك فكر فى «انقلاب أبيض» يعلن بعده «ديكتاتورية عسكرية» تحكم بمراسيم لها قوة القانون وتأجيل أى انتخابات برلمانية إلى أجل غير مسمى ــ كما تكشف البرقيات البريطانية.
أجهضت حركة «الضباط الأحرار» تفكيره وسبقته قبل أن تذهب به إلى المنفى.
بحكم الوثائق البريطانية فإن الملك «فاروق» طلب التدخل العسكرى البريطانى لإجهاض التمرد عليه على نحو ما فعله عمه الخديو «توفيق» عام (١٨٨٢)، لكنه لم يتلق إجابة.
بدا «فاروق» مذعورا ــ وفق برقية للسفير الأمريكى «جيفرسون كافرى»، الذى أخذ يهدئه دون جدوى.
بعد سبعين سنة من إطاحة آخر ملوك أسرة «محمد على» هناك من يحاول – دون جدوى أيضا ــ أن يقنعنا أن حكمه كان جنة على أرض!