بقلم: عبد الله السناوي
مرة بعد أخرى تتأكد الحاجة الماسة إلى مشروع ثقافى جديد ينير الطرق المعتمة بالتجديد والإبداع والانفتاح على العصر وتأكيد الحريات العامة.
لا يعقل فى بلد عريق كمصر أن تكون أزماته الثقافية والفنية أقرب إلى فرقعات فى الهواء تغيب عنها البديهيات وتأخذ وقتها بالضجيج قبل أن تنسى كأنها لم تحدث.
غابت البديهيات فى أزمة «أغانى المهرجانات»، تمنع بالمصادرة أو تترك بالتجاوز.
فى الرقابة بالمنع وصاية تناقض النصوص الدستورية التى تصون الإبداع.
وفى التجاوز بالألفاظ خروج عن أية قيمة فنية أو أخلاقية.
إذا كانت هناك قواعد قانونية فإن الحرية هى الأصل والتجاوز محله القضاء.
بالضجيج الزائد غابت البديهيات مرة أخرى فى أزمة أن تعرض أو تمنع مسرحية للمفكر الفرنسى «جان بول سارتر»، باسم الدفاع عن الأخلاق العامة وقيم المجتمع.
لم يكن الذين دعوا للمنع على علم بموضوع المسرحية الذى يناهض العنصرية دون أن يمس أى أخلاق، ولا بأفكار «سارتر» فيلسوف الوجودية الأكبر فى القرن العشرين، ولا وصل إلى علمهم أن المسرحية بعنوانها المباشر «المومس الفاضلة» عرضت قبل ستين سنة فى مصر دون أن تثير أدنى ضجيج، كأننا أمام نوع من التراجع الفادح عن إرث الستينيات فى الحريات الثقافية.
كان التراجع الثقافى هو الوجه المكمل للانقلاب السياسى والاجتماعى على ثورة يوليو.
فى مطلع يوليو كان يتصدر المشهد الثقافى ثلاثة أدباء كبار؛ الدكتور «طه حسين» و«عباس محمود العقاد» و«توفيق الحكيم».
كان «طه حسين» الأكثر حماسا لحركة «الضباط الأحرار»، فيما بدا «العقاد» متحفظا، لا أيّد بحماس ولا عارض بوضوح، فيما كان «الحكيم» ملهما لـ«جمال عبدالناصر» بروايته «عودة الروح».
فى الخيارات الرئيسية استندت «يوليو» إلى جوهر مشروع «طه حسين» فى مجانية التعليم، والنظر إلى أوضاع وأزمات الثقافة المصرية، التى نقلتها من حال إلى حال.
لم يكن مشروعه معلقا فى الهواء، فقد أصدر كتابه الأشهر «مستقبل الثقافة فى مصر» عام (1938) بعد عامين بالضبط من توقيع اتفاقية (1936)، التى اعترفت بريطانيا بمقتضاها أن مصر دولة مستقلة.
حاول بكتابه الصغير فى حجمه المدوى بأثره أن يؤسس لمستقبل الثقافة المصرية فى ظروف سياسية جديدة، رغم إحباط الرهان على تلك الاتفاقية إلا أن الفكرة نفسها بدت ملهمة للمستقبل بأكثر من أى توقع.
لم تكن مصادفة أن أغلب الذين تصدوا للمهام الثقافية فى حقبتى الخمسينيات والستينيات هم من تلاميذ عميد الأدب العربى، الذى يعد رمزا للاستنارة والروح النقدية، غير أن التوجهات بدت مختلفة بشأن دوائر الحركة، حيث تبنت «يوليو» التوجه شرقا إلى العالم العربى، فيما كانت نظرة العميد التوجه غربا عبر المتوسط إلى القارة الأوروبية.
كان «طه حسين» ثوريا فى تفكيره الثقافى والعقلانى، لكن لم يُعهد عنه ميل إلى تعديلات جذرية فى بنية العلاقات الاجتماعية.
بالمقابل كان «محمود عباس العقاد» محافظا فى تفكيره ونظرته الثقافية، هو مثقف موسوعى عَلّم نفسه بنفسه واكتسب نفوذا استثنائيا بارتباطه بزعيم ثورة (١٩١٩) «سعد زغلول» حتى إنه وصف بـ«قلم الوفد الجبار»، غير أنه اصطدم بخليفة «سعد» وخرج عليه مقتربا من الملك «فاروق».
لم يقترب «العقاد» من يوليو ولا كان له تأثير يذكر فى مشروعها الثقافى.
فى العلاقة بين الرجلين، «طه حسين» و«العقاد»، تعقيدات بلا حد ومساجلات معلنة ساهمت فى إثراء الحياة الثقافية والفكرية.
وكان «توفيق الحكيم» وسطيا، وهو يوصف عن حق برائد المسرح العربى.
نظراته الثقافية جديدة بمعايير زمانه فى تعقيدات العلاقة بين الشرق والغرب، على ما صورها فى روايته «عصفور من الشرق».
بدت اجتهاداته الأدبية والفكرية مثيرة وسجالية دون أن تتوافر فيها مقومات مشروع ثقافى كـ«طه حسين» و«العقاد».
حاور قائد «يوليو» أكثر من «طه حسين» فيما لم يلتقه «العقاد».
وقد ساعدت تجربة الأستاذ «محمد حسنين هيكل» فى «الأهرام» على احتضان القامات الثقافية الكبيرة.
«أردت بوجودهم أن أؤسس لصحافة القيمة والارتفاع بمستوى الحوار العام، وأن يكون المثقفون والأدباء والمفكرون الكبار فى قلب المشهد يتابعون ما يجرى فيه ويكتبون عن معرفة».
سألته: «لماذا غاب عن الدور السادس عميد الأدب العربى الدكتور طه حسين؟».
هنا تبدت ذكريات قديمة وأسباب خفية.
استقر بذاكرته ذلك اللقاء، الذى نشر تفاصيله فى أول يوميات كتبها لـ«أخبار اليوم» عام (١٩٥٥) تحت عنوان: «صومعة عقل».
بعد سنوات من هذا المقال ذهب إلى نفس المكان للقاء جديد مع عميد الأدب العربى، ولديه طلب محدد أن يأخذ موقعه على رأس كبار المفكرين والمثقفين والأدباء بالدور السادس من «الأهرام».
قال الدكتور «طه»: «لماذا.. وأنت عندك الأخ توفيق؟».
أدرك رئيس تحرير «الأهرام» أن هناك مشكلة ما بين الأديبين الكبيرين يصعب تجاوزها.
عندما وصلت إلى مسامع «الحكيم» قصة اللقاء الذى جرى سأل «هيكل»: «لماذا لم تبلغنى؟».
ـ «بأية صفة؟!».
أجابه «الحكيم»: «بصفتى رئيس الدور السادس»!
كان عميد الأدب العربى يدرك حساسيات كبار المثقفين فهو كبير وهم كبار، فنأى بنفسه عن أية منازعات من هذا النوع.
كانت العلاقة بين الرجلين «طه حسين» و«توفيق الحكيم» بالغة التعقيد، فيها حب وتقدير، إلى درجة أنهما ألّفا معا رواية «القصر المسحور»، أحدهما يكتب فصلا والآخر يرد عليه، على خلفية مسرحية «شهر زاد» لـ«الحكيم»، وفيها مشاعر غيرة ومشاحنات.
وقد كان «طه حسين» أول من استخدم كلمة «ثورة» لوصف ما حدث فى (٢٣) يوليو.. و«توفيق الحكيم» أول من هاجمها فى «عودة الوعى» بعد رحيل «جمال عبدالناصر».
غير أن قيمة الأدباء لا تحددها مواقفهم السياسية المتغيرة وإن كانت تضفى، أو تسحب من أوزانهم العامة.
العودة إلى «طه حسين» ضرورية للتدبر والتعلم، لكنها لا تصلح وحدها للتقدم إلى المستقبل بأوراق اعتماد جديدة.
إذا لم يكن هناك مشروع ثقافى جديد، يدرك حقائق عصره واحتياجات مجتمعه فإننا سوف نظل ندور فى حلقة مفرغة من الجهل والتجهيل.