بقلم :عبد الله السناوي
أسوأ قراءة ممكنة لثورة (25) يناير (2011) عزلها عن سياق الحركة الوطنية المصرية، ودفع أجيالها الجديدة إلى أوضاع تصادم مع تاريخ بلدهم باصطناع التناقض بين ثوراته وأجياله.
فى أربعينيات القرن الماضى نشأ جيل جديد إثر الحرب العالمية الثانية، حارب فى قناة السويس ضد معسكرات الاحتلال البريطانى، وتظاهر فى الجامعات والميادين ولوحق وطورد.
تأثر بعصره فى طلب العدل الاجتماعى، ووصلت ريح التغيير إلى «الوفد» حزب الأغلبية وتبنى زعيمه «مصطفى النحاس» «الطليعة الوفدية» بنزعتها اليسارية الصريحة على عكس التوجه العام للحزب.
فى المسافة بين عامى (١٩٤٦) و(١٩٥٢) نضجت تجربة جيل الأربعينيات.
بتلخيص ما فإن ما تأسس فى هذه المسافة من تطلعات ومشروعات وجد طريقه إلى التنفيذ بعد ثورة «يوليو» بزعامة «جمال عبدالناصر».
بعبارة أخرى فإنها ثورة جيل الأربعينيات.
فى يناير (1972) ولد جيل تالٍ أطلق عليه جيل السبعينيات من رحم الحركة الطلابية المصرية، تحمل مسئولية العمل الوطنى، وقدم للبلد أغلب نخبه السياسية والثقافية على مدى نصف قرن، لحقت بهذا الجيل هزائم فادحة، فكل ما حلم به تقوَّض، وكل ما دفع ثمنه تراجع.
حارب كما لم يحارب جيل آخر على جبهات القتال بعد هزيمة (١٩٦٧)، غير أن الجوائز كلها ذهبت إلى غير أصحابها.
صدمته أوسع عملية نهب للمقدرات العامة، بينما إرث «يوليو» فى مخيلته يلهم قواه الحية.
تطلع إلى مصر جديدة تستأنف أدوارها فى محيطها وقارتها، فإذا بأدوارها تتهمش وأوراقها كاملة فى «السلة الأمريكية».
عارض الرئيس الأسبق «أنور السادات» فى خياراته الرئيسية من الإدارة السياسية لحرب أكتوبر إلى الانفتاح الاقتصادى، وتفكيك القطاع العام.
كانت انتفاضة الخبز فى يناير (١٩٧٧) ثورته الناقصة.
خسر الرجل الذى تحمل مسئولية قرار الحرب شعبيته، وكاد يطيحه شعبه بعد أكثر قليلا من ثلاث سنوات من نصر أكتوبر، لولا إلغاء قرارات رفع أسعار الخبز وبعض السلع الأساسية الأخرى التى أفضت إلى الغضب.
الشعبية رصيد يؤخذ منه ويضاف إليه.
عندما داست السياسات الاقتصادية على الطبقة الوسطى والفئات الأكثر فقرا لصالح «القطط السمان»، حدث ما حدث.
لكل جيل قضية تلهم مخيلته، رغم أية إحباطات.
الحرية والعدل والكرامة الإنسانية قضية جيل ثورة يناير.
مشكلته أن الثورة التى تصدر مشاهدها المهيبة سبقت تجربته، وشعاراتها غلبت مبادئها.
على عكس جيلى الأربعينيات والسبعينيات افتقد إلى أية بنية فكرية تحدد ما يقصده من حرية وعدل اجتماعى، فأصبح ممكنا لكل من يطلب خطف الثورة أن يفعلها بسهولة كاملة.
كأى جيل آخر فهو يحتاج إلى وقت تنضج فيها الأفكار، وخبرة تساعده على تجنب المطبات.
أمامه فسحة من الزمن لكى يرفع كل الركام الذى يحاول أن يقطع طريقه.
قصة الجيل الجديد بالكاد بدأت.
بحكم السن فإن (٦٠٪) من المصريين تحت الخامسة والثلاثين.
هذا يستدعى الحوار لا الصدام، التفهم لا التعالى، فتح قنوات المستقبل لا الزج خلف جدران السجون.
إذا كان هناك من يضايقه تمرد الجيل الجديد، فكل الأجيال التى سبقته تمردت.
الرهان على المستقبل إذا لم يكن تمردا على أية أوضاع خلل فلا أثر له ولا معنى.
بالتعريف: «يناير» جذر الشرعية الدستورية، ولا توجد شرعيات معلقة فى الفضاء بلا أرض تقف عليها.
وبالأثر: فإنها ــ كأى ثورة أخرى فى التاريخ ــ ليست جملة عابرة تذهب إلى حال سبيلها بالنسيان، أو التجاهل.
هناك فارق جوهرى بين قوة الدفع والقوة الكامنة.
قد تتوقف قوة الدفع قبل أن تحقق الثورات أهدافها، ذلك حدث مرارا فى تجارب تاريخية مماثلة، غير أنه لا يعنى موتها سريريا.
من مصادر تلك القوة ما استقر لدى الأجيال الجديدة ــ كأصحاب الحق فى المستقبل ــ من نظر إلى فعل الثورة بنوع من التماهى، فالمس بها إلغاء لهم.
ومن مصادرها ارتباط «يناير» بعصر المعلومات وثورة الاتصالات، بما يجعل مستحيلا فصم العلاقة بين الأجيال الجديدة وطلب الدولة الحديثة الديمقراطية والعادلة وما ترسب عميقا فى الذاكرة الجماعية عن أجواء الثورة وأحلامها، مشاهد الجموع وهى تتدافع فى طريق واحد، صلوات المسلمين فى ميدان التحرير تحت حماية الأقباط خشية الاعتداء عليهم، والاستعداد للتضحية بالروح دون وجل، والغناء الجماعى ورسوم الجرافيتى.
كل المواجهات الكبرى والتفاصيل الصغيرة مصادر قوة كامنة يصعب تحديها فى أى مستقبل.
كانت «يناير» ثورة شعبية حقيقية تقدمت مشاهدها الأجيال الجديدة.
فى أول العرض التاريخى جرى ما يشبه «التقديس» للفعل الثورى شاملا جماعات الشباب، فهم «أفضل جيل فى التاريخ المصرى الحديث»، «لا قبلهم ولا بعدهم»، قبل أن تنقلب الآية بنزع أية فضيلة عنهم وإلصاق كل نقيصة بهم!
كان ذلك نفيا لتواصل الحركة الوطنية المصرية جيلا بعد آخر، وتسطيحا فى الوقت نفسه لطبيعة الثورة.
أحد أسباب السهولة النسبية التى اختطفت بها «يناير» أنها لم تدرك موقعها فى التاريخ المصرى، ولا تراكم خبرة ثوراتها.
عندما أخفقت ثورة (١٩١٩) فى أن تحقق هدفيها الرئيسيين: الاستقلال والدستور، فالأول أُجهض عمليا والثانى جرى الانقلاب عليه، بدأت مصر تنتفض من جديد.
فى عام (١٩٣٥) خرجت مظاهرات حاشدة تحتج على تصريح بريطانى بأن مصر لا يصلح لها دستور (١٩٢٣) ولا دستور (١٩٣٠).
فى هذه المظاهرات تواصل عطاء الدم المصرى.
وفى عام (١٩٤٦) خرجت مظاهرات حاشدة أخرى، من أجل مطلب الاستقلال، أفضت إلى شهداء جدد من بينهم (٢٣) شهيدا فى ميدان «الاسماعيلية»، وهو ذاته الميدان المعروف الآن باسم «التحرير»، وأصيب فى هذه الموقعة (١٢١) جريحا. بعد أيام فى الإسكندرية سقط (٢٨) شهيدا و(٣٤٢) جريحا.. المدينة ذاتها قدمت شهداء آخرين فى ثورة يناير.
كانت تلك التضحيات إيذانا بميلاد جيل الأربعينيات، وهو واحد من أهم الأجيال فى تاريخ مصر المعاصرة، قام بثورة جديدة فى «يوليو» (١٩٥٢) كان فى طليعتها هذه المرة تنظيم «الضباط الأحرار»، غير أن ثغرات نظامها السياسى الفادحة خذلت الأحلام الكبرى التى أطلقتها فى حرب (1967).
وكانت تحديات حرب الاستنزاف بين عامى (1967) و(1973) البيئة التاريخية لميلاد جيل السبعينيات.
الأجيال الملهمة لا تولد من فراغ والثورات لا تحدث بالمصادفة.
تراجيديا الثورات ــ بالآمال العريضة التى تسقط من حالق ــ لم يمنع فى أى وقت اتصال فعل الحركة الوطنية جيل بعد آخر للتصحيح وتعلم الدروس، وهذا ما يجب أن تحتذيه الأجيال الجديدة.