توقيت القاهرة المحلي 22:20:17 آخر تحديث
  مصر اليوم -

خالد عبدالناصر من قريب

  مصر اليوم -

خالد عبدالناصر من قريب

بقلم: عبد الله السناوي

ران صمت طويل قطعته نوبات بكاء، كأن «جمال عبدالناصر» مات الآن.
بدا الموقف مفاجئا فيما كان صديقى الراحل الدكتور «خالد عبدالناصر» يدقق بعض تفاصيل ما جرى فى بيت منشية البكرى يوم (28) سبتمبر (1970).
كانت الساعة تقترب من الرابعة صباحا مطلع عام (٢٠٠٣).
على خط هاتفى آخر من داخل نفس البيت كان معنا شقيقه «عبدالحميد».
انهار هو الآخر ودخل فى بكاء مرير.
لم أعلق بكلمة واحدة وتركت المشاعر تأخذ مداها لعل البكاء يريح.
بعد ثورة «يناير» بشهور قليلة، قبل عشر سنوات بالضبط، رحل «خالد» بعد معاناة مضنية مع المرض.
لم نجلس مرة واحدة نستقصى وقائع ما كان يجرى خلف الأبواب المغلقة وفق خطة معدة سلفا، كل شء ترك لتيار التذكر وكتب بنفس الطريقة.
فى أى وقت يتصل حتى لو كان فجرا، يروى ما يكون قد تذكره توا والكلام يوضع على أية أوراق يتصادف وجودها أمامى.
غلبت البكائيات على ما كان يتذكره من وقائع حتى خشيت عليه من التوحد مع الماضى.
لسنوات طويلة استقر داخله شعور غامض أنه سوف يغادر الدنيا مبكرا كوالده، الذى توفى فى الثانية والخمسين من عمره.
عاش أطول من هاجسه حتى الثانية والستين، قاوم الأمراض التى داهمته، سأل أصدقاؤه المقربون إذا كان ممكنا أن يساعدوه فى البحث عن عمل، هكذا بالحرف: «أنا عاوز اشتغل»، غير أن حياته انقضت بعد أسابيع قليلة من ذلك السؤال.
أعاد اكتشاف والده فى ثمانينيات القرن الماضى، أراد أن يؤكد لنفسه قبل الآخرين أنه «ناصرى» بالاعتقاد لا بالوراثة.
أثبتت التجربة جديته وصدقه، أدخل قفص الاتهام على خلفية تأسيسه لـ«تنظيم ثورة مصر».
ذهب إلى منفى اختيارى فى يوغوسلافيا مطلع تسعينيات القرن الماضى، لم يمش فى جنازة والدته.
فى هذه الجنازة هتف مواطنون مصريون فى وداع زوجة «عبدالناصر»: «ثورة مصر لما هبت، مصر من وراها ردت. عاشت الإيد اللى ربت».
حمل «عبء التاريخ» على كاهله، فهو النجل الأكبر لـ«جمال عبدالناصر»، وتصرفاته محسوبة على اسم والده.
يتحدث على راحته، كأى شاب آخر، مع أصدقائه، لكنه ما إن يخرج إلى المجال العام حتى يضبط تصرفاته وأقواله، فكل تصرف تحت المجهر وكل قول محل فحص.
لم يكن مقتنعا بسيناريو «التوريث»، ذات مرة قاصدا أن يصل صوته إلى مركز القرار قال لى على الهاتف صارخا: «ليه.. ليه.. يدخل الجحيم برجليه».
التعبير نفسه استخدمه الرئيس الأسبق «حسنى مبارك» فى سياق آخر: «لن أضع ابنى فى الجحيم بيدى»، غير أنه لم يوقف السيناريو وكان ما كان.
يكاد صوته إذا ما ارتفع أن يطابق صوت «جمال عبدالناصر»، كان ذلك يسعده إلى حدود غير متصورة.
قبل رحيل «عبدالناصر» بأسابيع قليلة خطر لوالدته أن تسأل: «خالد حيتخرج السنة الجاية، وأنا عارفة إنك حتبعته للجبهة الأمامية».
ــ «أيوه يا تحية».
كان تقديره أن الواجب الوطنى يقتضيه أن يدفع بابنه لخطوط القتال الأمامية، وفى أول نقطة مواجهة مع «إسرائيل». فماذا يقول الناس إذا دفع «عبدالناصر» بأولادهم لخطوط القتال الأمامية، وأعفى ابنه من ضريبة الدم.
كان يتذكر باعتزاز أنه لم يحصل على أى ميزة نسبية لكونه نجل الرئيس، تعرض لاعتداء بدنى من بعض زملائه أثناء تمرين رياضى فى المدرسة، أصيب وجهه بإصابات ظاهرة، طلب «عبدالناصر» من سكرتيره الخاص «محمد أحمد» أن يبلغ مدير المدرسة ألا يتعرض أى من زملائه للعقاب، أو المؤاخذة.
كان طالبا متفوقا حصد درجة الدكتوراه فى الهندسة من الجامعات البريطانية بعد رحيل والده وعمل أستاذا فى كلية الهندسة جامعة القاهرة التى تخرج منها.
ذكرياته فى منشية البكرى صاغت الخطوط العريضة فى تجربته الإنسانية، غير أن مشهدا واحدا قبع فى الذاكرة لا يغادرها، مشهد يوم الرحيل مساء (٢٨) سبتمبر (١٩٧٠).
كان قد انتهى لتوه من تدريب كرة يد بنادى هليوبوليس فى ضاحية مصر الجديدة.
لم يكن هناك شىء غير عادى.
رأى أمامه فجأة «عصام فضلى»، وهو ضابط من قوة الحراسة الخاصة بالرئيس.
قال له: «تعالى.. عايزينك فى البيت». لم يزد حرفا.
كانت هناك حركة غير عادية فى الدور الثانى بغرفة الرئيس.
«أبى أمامى على السرير مرتديا بيجامة، طبيبه الخاص الدكتور الصاوى حبيب يحاول إنقاذ حياته بصدمات كهرباء للقلب.
السيد حسين الشافعى بزاوية الحجرة يصلى ويبتهل إلى الله.
الدكتور الصاوى قال بلهجة يائسة كلمة واحدة: خلاص.
الفريق أول محمد فوزى نهره بلهجة عسكرية: استمر.
ثم أخذ يجهش بالبكاء.
نفذ أمر الله.
أخذت الأصوات ترتفع بالنحيب.
لم أبك.
وقفت مصدوما. بكيت بمفردى بعد أسبوعين لثلاث ساعات مريرة.
لم أصدق أن أبى رحل فعلا.
أمى أخذتها حمى أحزانها، أخذت فى البكاء والنحيب كأى زوجة تنعى رجلها وجملها.
جاء أنور السادات وتبعته ــ على عجل ــ السيدة جيهان بفستان أزرق.
السادات نهرها: «امشى البسى أسود وتعالى.
بدأ توافد كبار المسئولين فى الدولة على البيت.
حملت قوة الحراسة الشخصية جثمانه على نقالة إسعاف، بلا غطاء، وجهه مكشوف، ابتسامة رضا تعلوه، رائحة الموت كريهة، لكنها بدت لى مِسكا.
تابعت أمى الجثمان المحمول على نقالة إسعاف بنحيب دوى فى المكان الذى كان للحظات قليلة مضت المقر الذى تدار منه مصر وصراعات المقادير على المنطقة.
قال لها السادات على طريقة أهل الريف فى مثل هذه الأحوال: يا تحية هانم.. أنا خدامك.
مضى أبى أمام عيوننا محمولا على نقالة إسعاف، لم يعد. لم نره مرة أخرى.
لم تذهب معه أمى ولا أحد من أبنائه لقصر القبة.
أمى جلست على السلم تنتحب.
ما زال يدوى فى وجدانى بكاء أمى الملتاعة وهى تجرى وراء الخروج الأخير لعبدالناصر من بيت منشية البكرى: «وهو عايش خدوه منى. وهو ميت خدوه منى».
كان ذلك مشهدا تراجيديا مقتطعا من التحولات والانقلابات التى أعقبت الرحيل.
وسط تلك التحولات والانقلابات أعاد «خالد عبدالناصر» اكتشاف نفسه ومعنى حياته، وشاءت أقداره أن يعيش حتى يرى ثورة «يناير» (2011) التى أيدها بحماس بالغ قبل أن يرحل فى نفس العام.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

خالد عبدالناصر من قريب خالد عبدالناصر من قريب



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 17:30 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

ميرهان حسين تكشف مفاجأة عن أعمالها المقبلة
  مصر اليوم - ميرهان حسين تكشف مفاجأة عن أعمالها المقبلة

GMT 01:58 2021 الأربعاء ,01 أيلول / سبتمبر

البورصة المصرية تربح 31.4 مليار جنيه خلال شهر أغسطس

GMT 23:21 2020 الأربعاء ,26 آب / أغسطس

بورصة بيروت تغلق على تحسّن بنسبة 0.37%

GMT 13:08 2020 الإثنين ,24 شباط / فبراير

7 قواعد للسعادة على طريقة زينة تعرف عليهم

GMT 01:27 2018 الإثنين ,26 شباط / فبراير

باحثون يؤكدون تقلص عيون العناكب الذكور بنسبة 25%

GMT 15:46 2018 الأربعاء ,07 شباط / فبراير

كارل هاينز رومينيجه يشيد بسياسة هاينكس

GMT 12:17 2018 الجمعة ,02 شباط / فبراير

Mikyajy تطلق أحمر شفاه لعاشقات الموضة والتفرد

GMT 16:48 2018 الخميس ,25 كانون الثاني / يناير

المقاصة يسعى لاستعادة الانتصارات أمام الانتاج

GMT 14:39 2018 الإثنين ,22 كانون الثاني / يناير

"ثقافة أبوقرقاص" تنظم فعاليات في قرية الكرم وقصر الإبداع
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon