بقلم: عبد الله السناوي
كان الجو السياسى ملبدا بالغيوم، الأعصاب مشدودة والقرارات أفلتت حساباتها عن كل قيد.
فى مساء (5) سبتمبر (1981)، قبل أربعين سنة بالضبط، تابع المصريون على شاشات التلفزيون الرئيس «أنور السادات» وهو يعلن ما أطلقت عليه الصحف الرسمية صباح اليوم التالى: «ثورة 5 سبتمبر» و«ثورة العمل الداخلى» و«الحرب على الفتنة»!
لم تتسق التوصيفات مع القرارات، فقد أودع للتو فى المعتقلات أكثر من (1500) شخصية عامة من كبار السياسيين والبرلمانيين والمثقفين والكُتاب والصحفيين ورجال الدين مسلمين ومسيحيين دون أسباب مفهومة، أو يمكن تقبلها واستيعابها.
لكل اسم ضمته حملة الاعتقالات، بشيوخه وشبابه، دوره ووزنه وتاريخه.
بعضهم اقترب من «السادات» قبل أن تفترق الطرق مثل الأستاذ «محمد حسنين هيكل»، ووزير الإعلام الأسبق «محمد عبدالسلام الزيات»، ووزير الرى «عبدالعظيم أبو العطا» الذى رفض الهرولة إلى الحزب الوطنى ومات سجينا.
هناك من كان على الجانب الآخر فى أزمة (15) مايو (1971)، كوزير الإعلام «محمد فائق»، الذى أدخل السجن لعشر سنوات، وما إن خرج حتى أعيد إليه مرة ثانية.
وبعضهم لعبوا أدوارا جوهرية قبل وبعد ثورة «يوليو» مثل «فؤاد باشا سراج الدين» زعيم حزب «الوفد»، و«فتحى رضوان» صاحب التاريخ الوطنى قبل ثورة «يوليو» وبعدها، و«عبدالعزيز الشوربجى» الذى جلجل صوته بنقابة المحامين باسم الوطنية المصرية فى أخطر لحظات التاريخ المصرى المعاصر.
تمددت القائمة لكل ما له قيمة فى البلد من جميع الأجيال والتيارات، كأن مصر وضعت قيد الاعتقال فى لحظة انفلات أعصاب.
نقل صحفيين إلى هيئة الاستعلامات، ألغيت تراخيص إصدار صحف معارضة، والأخطر من ذلك كله إلغاء قرار رئيس الجمهورية بتعيين الأنبا «شنودة» بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية وتحديد إقامته فى دير وادى النطرون وتشكيل لجنة للقيام بالمهام الباباوية.
كان ذلك جنوحا مفرطا فى استخدام السلطة.
باسم الحرب على الفتنة وضع ثمانية أساقفة قيد الاعتقال وأعداد كبيرة أخرى من الرهبان والكهنة لأول مرة فى التاريخ المصرى منذ الفتح العربى.
نفس المصير لقيه رجال دين مسلمون دون اتهامات ثابتة تسوغ الإجراءات الخشنة.
أحد القرارات التى صدرت فى ذلك اليوم، ولم يتسن لها أن تنفذ طوال سنوات طويلة تالية، رغم أن منطوقها صحيح بأى معنى دستورى حديث: «حظر استغلال الدين لتحقيق أهداف سياسية أو حزبية وحظر استخدام دور العبادة لهذا الغرض».
أفرط «السادات» نفسه فى توظيف المقدس الدينى لمقتضى السياسة المتغيرة، وهو صاحب تعبير: «أنا رئيس مسلم لدولة إسلامية»، الذى كان داعيا للتساؤل: عما إذا كانت مصر دولة دينية أم دولة مدنية؟!
«ما هذا القرار أيها الرجل؟! تعلن ثورة فى ١٥ مايو ثم تصفيها فى ٥ سبتمبر؟
تزج فى السجن بالمصريين جميعا من مسلمين وأقباط، رجال أحزاب ورجال فكر؟
لم يعد فى ميدان الحرية إلا الانتهازيون».
كانت تلك عبارة احتجاج على اعتقالات سبتمبر أوردها «نجيب محفوظ» على لسان الجد الوفدى «محتشمى زايد» فى روايته «يوم قتل الزعيم».
«ما هو إلا ممثل فاشل».
«صديقى بيجين.. صديقى كيسنجر.. الزى هتلر والفعل شارلى شابلن».
وكانت تلك صيحة رفض أوردها على لسان الحفيد الناصرى «علوان فواز محتشمى».
رغم عنوان الرواية، التى أضفت صفة الزعامة على «السادات» لا يوجد حرف واحد فيها يؤكد هذا المعنى.
بأثر النكسة ووطأة الانفتاح عجز الحفيد عن إتمام زواجه من خطيبته، التى تشاركه الأفكار نفسها ــ «أعلنت الخطوبة فى عهد الناصرية وواجهتنا الحقيقة فى عصر الانفتاح».
ربط «نجيب محفوظ» ما بين اعتقالات سبتمبر واغتيال «السادات» فى حادث المنصة الدموى بعد شهر واحد، لكنه سجل فى نفس النص الروائى على لسان الخطيبة «راندة سليمان مبارك»: «يا للفظاعة! ألا توجد وسيلة إلا القتل».
كانت تلك إدانة للاغتيال.
فى جميع القراءات التى أطلت على ما جرى فى مصر ما بين يومى (5) سبتمبر و(6) أكتوبر (1981)، فإن الأول أفضى إلى الثانى.
من تحت نيران حادث المنصة استقر فى يقين الرئيس الجديد «حسنى مبارك» استبعاد نهج «الصدمات الكهربائية»، التى كان يتبعها سلفه، لكنه أفرط فى ذلك الخيار إلى حدود الجمود.
كما استقر فى يقينه أن الأمن أساس الحكم، وتصرف على هذا الأساس بإفراط مرة ثانية، فللأمن ضروراته، لكنه إذا ما فرغ من السياسة فإنه يفضى إلى هز قواعد القبول العام، أساس كل شرعية.
أثناء حركة الحوادث العاصفة لم يحاول نائب الرئيس أن يبدى تحفظا واحدا على الإجراءات التى يوشك أن يتخذها «السادات»، فقد دأب أن ينفذ حرفيا ما يصدر إليه من تعليمات بلا حوار أو نقاش.
ساعدته صفاته وطبائعه على تجاوز مطبات «انتفاضة الخبز» (1977) و«كامب ديفيد» (1978) و«اعتقالات سبتمبر» (1981)، فهو فى صف الرئيس دائما، قد تكون له وجهات نظر أخرى لكنه لم يكن يفصح عنها على أى صورة.
توارى السياسى فيه ـ دائما ـ لصالح «الإدارى».
على مدى ثلاثة عقود فى الحكم بدا متأثرا بخبرته كنائب للرئيس، التى أكدت أن صفة «الإدارى» مكنته من البقاء فى السلطة العليا، بينما خرج منها منافسه القوى «منصور حسن»، الأقرب إلى الرئيس، حين بدا أنه متحفظ على بعض قراراته وتوجهاته خاصة اعتقالات سبتمبر، التى أفضت أجواؤها وتداعياتها إلى وضع كلمة النهاية على عصر كامل.
فيما بعد المنصة أثبت النائب كفاءة لم تكن متوقعة فى السيطرة على الموقف مجهضا ما جرى فى أسيوط من أعمال عنف مروعة استهدفت مديرية أمنها، كما نجح بالإفراج عن المعتقلين السياسيين واستقبال رموزهم فى القصر الجمهورى وعودة رأس الكنيسة إلى مهامه فى تأكيد شرعية القبول العام برئاسته وخفض التوترات الطائفية التى أطلت برأسها.
كانت تلك مراجعة صحيحة فى توقيتها، غير أنها لم تأخذ مداها، سدت الطرق أمامها بالجمود الطويل، لا الحياة العامة صححت معادلاتها، ولا الفتن الطائفية أجهضت أسبابها، ولا مصر تحولت إلى دولة مدنية تستحقها.
بعد أربعين سنة على حوادث سبتمبر تحتاج مصر إلى قراءة متأملة فى أسبابها وتداعياتها والدروس التى يتوجب استخلاصها حتى يمكن التقدم للمستقبل بثقة واطمئنان وحرية.