بقلم: عبد الله السناوي
تحتاج مصر أن تحاور وتناقش نفسها قبل الآخرين فى مسألة حقوق الإنسان.
بقدر ما يكون النقاش موضوعيا وصريحا يكتسب زخمه وقدرته على تغيير البيئة العامة إلى ما هو جدير ببلد قام بثورتين لبناء دولة مدنية ديمقراطية حديثة.
أول ما يلفت الانتباه فى «الوثيقة الوطنية لحقوق الإنسان»، التى أعلنت فى ندوة رئاسية، عنوانها نفسه، الذى ينطوى على اعتراف ضمنى بأن هناك أزمة حقيقية تستدعى مقاربة جديدة.
الاعتراف بالأزمة، أية أزمة، نصف الطريق للتغلب عليها.
النفى فعل إنكار والاعتراف فعل تغيير.
القضية ليست فى نص أو آخر، بقدر ما هى أن يكون السعى لتغيير الصورة واصلا إلى هدفه على أرض الواقع بإجراءات محددة وملموسة.
هذا موضوع نقاش يتجاوز الوثيقة وما انطوت عليه من نصوص والتزامات إلى الحركة العامة للمجتمع بكل تنوعه الطبيعى حتى تستبين أبعاد الأزمة وتداعياتها على صورة البلد فى عالمه ونظرته إلى نفسه وسبل تحسين ملف حقوق الإنسان وفق القواعد الدستورية الحديثة.
إذا ما فتح المجال العام لمثل ذلك النقاش الضرورى فإنه يضفى على الوثيقة جديتها وعلى الالتزامات صدقيتها.
أسوأ ما قد يحدث أن تطوى الأوراق فى دفاتر تودع فى أرشيف بحسبانها حدثا انقضى فعله لحظة إعلانه!
وثانى ما يلفت الانتباه إسناد مهمة إعداد وصياغة الوثيقة إلى وزارة الخارجية دون سواها من الوزارات والهيئات المتداخلة فى ملف حقوق الإنسان، كأنه اعتراف ضمنى بفشلها فى الاضطلاع بالحد الأدنى من واجباتها.
بحكم طبيعة العمل الدبلوماسى فإنه سطح حساس تنعكس عليه أحوال البلد وأوضاعه السياسية والاستراتيجية والاقتصادية والاجتماعية.
هكذا يجد الدبلوماسى المصرى نفسه، بمناسبة أو بغير مناسبة، يقتطع جزءا كبيرا من وقته وجهده فى شرح أحوال قضية حقوق الإنسان فى بلده وإذا ما كان ممكنا تحسينها.
بالتعريف فإن هذا ليس دوره الرئيسى ولا صلب مهمته، لكنه مفروض عليه بتأثير ما ينشر فى الميديا الغربية متمددا فى الوسطين الحقوقى والأكاديمى، كما فى المراكز البحثية الكبرى.
فى أول زيارة لوزير الخارجية السابق السفير «نبيل فهمى» للولايات المتحدة عقب (30) يونيو (2013)، التقى مطولا بنظيره الأمريكى «جون كيرى»، الذى تربطه به صداقة قديمة.
بمصادفات التوقيت استهلكت قضية مستحدثة أغلب اللقاء، فقد صدر فى اليوم نفسه حكم قضائى بإحدى محافظات الصعيد قضى بإعدام أعداد كبيرة من المتهمين بممارسة العنف والإرهاب، رغم أن الحكم نقض تاليا، إلا أن أصداءه بدت فى توقيتها كقنبلة دخان أمام مهمة الوزير المصرى.
الأمر نفسه يعترض خلفه السفير «سامح شكرى» شأن الجهاز الدبلوماسى المصرى كله.
الضغوط الدولية الآن تراجعت عما كانت عليه بدواعى المصالح الاستراتيجية والاقتصادية مع بلد محورى فى حجم مصر، لكن أشباحها تظل ماثلة، تضرب فى الصورة وتؤذى المصالح العامة، وتوظف الملف بالابتزاز من حين لآخر لمقتضى مصالح الآخرين.
هناك إذن دافعان لإسناد مهمة إعداد وصياغة الوثيقة لوزارة الخارجية.
الأول، كفاءة الدبلوماسيين المصريين وخبرتهم فى مخاطبة العالم.
والثانى، خفض الضغوط على الجهاز الدبلوماسى من أسئلة لا تجد إجابات مقنعة، أو قادرة على تغيير الصورة.
إسناد المهمة لوزارة الخارجية له منطقه، لكن تصحيح الصورة يحتاج إلى ما هو أكثر من بيانات مكتوبة بحذق دبلوماسى، أو وثائق منشورة للاستخدام الخارجى.
الإجراءات على الأرض أهم من النصوص على الورق.
الإفراج عن المحبوسين احتياطيا يفوق فى رسالته للعالم أية بيانات ووثائق.
عندما جرت فى الفترة الأخيرة مجموعة إفراجات عن نشطاء شبان وأكاديميين وصحفيين محبوسين احتياطيا كانت النتائج فورية بالاحتفاء، تناقلت وكالات الأنباء والفضائيات الدولية أنباء الإفراجات، تحسنت البيئة العامة فى مصر وبدت الصورة أفضل بالخارج.
أول خطوة صحيحة لتأكيد الالتزام بقضية حقوق الإنسان إنهاء أية مظالم ماثلة خلف جدران السجون للذين لم يحرضوا على عنف ولا ارتكبوا إرهابا.
وثانى خطوة صحيحة لتأكيد ذات الالتزام إلغاء قانون الحبس الاحتياطى حتى يكون ممكنا رد اعتبار حقوق المواطنين فى المحاكمة العادلة أمام قاضيهم الطبيعى، لا تمديد الحبس دون محاكمة، كما لو أنه عقوبة بذاته.
الإفراج عن مظلوم واحد خلف جدران السجون خطوة لا يصح التقليل من أهميتها إذ تفتح المجال لخطوات أخرى أكبر وأكثر اتساعا.
بأى حديث جدى عن حقوق الإنسان يطرح سؤال الحريات نفسه بإلحاح، فهى البنية الأساسية للحقوق السياسية والمدنية.
فتح المجال العام قضية رئيسية للتحول إلى دولة مدنية ديمقراطية حديثة، على ما يؤكد الدستور وتدعو الوثيقة.
بقوة الالتزام الدولى فإن مصر من أوائل الدول التى وقعت على العهدين الدوليين للحقوق المدنية والسياسية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية.
الأول ــ ينتسب إلى إرث الثورة الفرنسية، وهو أفضل ما تمخض عنها.
والثانى ــ ينتسب إلى إرث الثورة البلشفية، وما بقى منها ملهما.
كل ما ورد فى «الوثيقة الوطنية لحقوق الإنسان» إعادة تأكيد على الالتزام الدولى، وهو بذاته مطلوب، فحقوق الإنسان ليست اختراعا جديدا بقدر ما هى قضية تستحق الدفاع عنها وتأكيد مبادئها بالممارسة أولا.
وبقوة الالتزام الدستورى فإن منع التمييز ومبادئ المواطنة والمساواة فى الحقوق والواجبات وضمانات الحريات العامة وقواعد دولة القانون وإعلاء الكرامة الإنسانية مكفولة.. ويتبقى إنفاذها بـ«الوثيقة الوطنية لحقوق الإنسان»، أو بغيرها، فهذه مسألة شرعية دستورية فى المقام الأول.
هناك سؤال حان وقت أن يطرح بالجدية اللازمة:
هل لمصر مصلحة عليا محققة فى تحسين سجلها فى حقوق الإنسان دون إبطاء؟
الإجابة بالقطع: نعم.
هناك تداخل حقيقى بين الوضعين الخارجى والداخلى، بقدر ما يتأكد الاستقرار السياسى على أسس من الرضا العام ترتفع فرص لعب أدوار أكبر فى الإقليم المشتعل بالنيران والأزمات والانقلابات الاستراتيجية.
يوشك الإقليم أن يدخل مرحلة جديدة فى توازناته وحساباته عند الانسحاب الأمريكى المتوقع من العراق.
تخفيض أية احتقانات ماثلة أو محتملة فى الوضع الداخلى يفسح المجال واسعا للقدرة على المبادرة فى أزمات الإقليم، وأن يطرح البلد نفسه لاعبا رئيسيا فى معادلاته المستجدة.
بحسابات القوة والمصالح تنظر إسرائيل فى فرصها لملء فراغ القوة حيث مصادر النفط فى الخليج باسم حمايته وحصار الدور الإيرانى، إيران بدورها تتمركز فى انتظار مصير «مفاوضات فيينا» بشأن إحياء الاتفاق النووى للنظر فى الترتيبات التى تليه، وتركيا تحاول لملمة خسائرها الاستراتيجية بمصالحات فى الإقليم ولعب أدوار وظيفية جديدة وفق الاستراتيجيات الغربية، والسعودية تحاول بقدر ما هو ممكن إعادة التمركز لخفض الخسائر فى أوزانها بمنطقة الخليج لصالح اللاعبين القطرى والإماراتى.
هناك فرصة كبيرة سانحة أمام مصر أرجو ألا تفلت للحركة والمبادرة والتمركز حيث يصنع المستقبل استثمارا استراتيجيا واقتصاديا.
باليقين فإن ملف حقوق الإنسان ليس هو صلب الدور، لكنه ضرورى لإكسابه زخمه وقدرته على أوسع اختراق ممكن يؤكد قيمة البلد فى محيطه.