رغم مضى العقود على هزيمة (5) يونيو (1967) هناك من يطلب حتى الآن تكريسها فى الوجدان العام كأنها قدر نهائى ومصير محتم عند طلب الحقوق الوطنية.
مراجعة أسباب الهزيمة عمل ضرورى لعدم تكرار أخطاء الماضى.
هذه مسألة تختلف تماما عن تكريسها كعقدة يجرى إنتاجها دون توقف لمصادرة أى أمل فى المستقبل.
قبل الهزيمة العسكرية بـ(٣٥) يومًا سجلت مجموعة أوراق «محمد حسنين هيكل» توصيف «جمال عبدالناصر» لأزمة الحكم، التى جعلت الهزيمة ممكنة على النحو الفادح الذى حدثت به:
«إن الأزمة لم تعد أزمة أشخاص، إنما هى أزمة نظام».
«القوى الاجتماعية والأفكار التى أطلقتها الثورة قد أصبحت أكبر من النظام السياسى الذى أقامته».
«إن النظام على النحو القائم الآن يترك مصير البلد لرجل واحد، وهذه مخاطرة بالمستقبل».
«إن هذا الوضع يمكن أن يدفع بالجماهير إلى السلبية، وبالتالى تترك أهم القرارات للبيروقراطيين أو التكنوقراطيين».
«إنه لا بد أن تتسع عملية إعادة التنظيم لقوى معارضة، تكون لها صحفها لكى تستطيع أن تعرض أفكارها على الناس، ولكى تكون رقيبًا على تصرفات الدولة».
كانت تلك مصارحة بالأفكار والتصورات والمخاوف يوم (30) أبريل (1967) قبل أن تخيم الهزيمة العسكرية على مستقبل «يوليو»، حيث ضاق نظامها عن القوى الاجتماعية والأفكار التى أطلقتها.
باليقين كانت هناك مؤامرات على ثورة «يوليو» لإجهاض مشروعها وإنهاء أدوارها، غير أنها ما كانت لتمر لولا الثغرات الداخلية فى بنية «النظام المقفول الذى يُعلق مستقبل البلد على مجهول» ــ بتعبير «عبدالناصر» فى مراجعات الهزيمة.
كانت خطة العدوان تبحث عن ذريعة.
بتقدير سياسى خاطئ وقعت مصر فى الفخ المنصوب.
هذه مسئولية «عبدالناصر» وحده.
تعددت الإشارات الموثوقة تحذر من عمل عسكرى وشيك ضد مصر.
الرئيس الفرنسى «شارل ديجول» أبلغ «عبدالناصر» عبر السفير المصرى فى باريس «عبدالمنعم النجار» أن المخابرات الفرنسية حصلت على معلومات مؤكدة أنه سيحدث هجوم عسكرى صباح (٥) يونيو راجيًا استيعاب الضربة، ثم الرد عليها، حتى يستطيع دعم القاهرة باعتبار أنها تعرضت لعدوان.
لم تأخذ القيادات العسكرية الملتفة حول المشير «عبدالحكيم عامر» تحذيرات الرئيس على محمل الجد، بل جرى الاستهتار بما حذر منه: «هوه يعنى من أولياء الله الصالحين حتى يعرف موعد الحرب، وأنه الاثنين بالذات!».
لم يكن «عبدالناصر» على دراية حقيقية بما يجرى داخل القوات المسلحة.
باعتباره القائد الأعلى للقوات المسلحة، كان يتوجب عليه ألا يترك الأمور داخلها تصل إلى هذا الحد المزرى ــ أيًا كانت أسبابه فى تأجيل الحسم.
هذه مسئولية سياسية ثانية يتحملها وحده.
عندما توافرت الذريعة بدت النتائج محتمة.
كانت الذريعة، التى سوغت العدوان، إغلاق خليج العقبة أمام الملاحة البحرية الإسرائيلية.
وقد اندفعت الأحداث على النحو التالى:
حشدت قوات عسكرية مصرية فى سيناء تحسبًا لأية ضربة متوقعة ضد سوريا.
شىء أقرب إلى المظاهرة العسكرية بلا نية حرب، أو استعداد مناسب، بظن أنها قد تدفع إسرائيل للامتناع عن استخدام القوة ضد سوريا، أو تهديد أمن حدودها.
لم يكن التقدير صحيحًا.
وهذه مسئولية سياسية ثالثة.
فى ظروفه وتوقيته كانت مشكلته أنه إذا لم يُقدم على تحرك ما على الجبهة المصرية سوف يُتهم بالتخاذل عن نصرة سوريا وتركها فريسة لآلة الحرب الإسرائيلية.
أراد مظاهرة السلاح ردعًا فيما استخدمتها إسرائيل فخًا.
طلبت مصر إخلاء قوات الأمم المتحدة من خط المواجهة بين طابا ورفح، غير أن السكرتير العام المساعد «رالف بانش»، أمريكى الجنسية، كان رأيه أنه لا مجال للانسحاب من جزء والبقاء فى آخرــ كأنه إحكام للفخ المنصوب.
أغلق خليج العقبة «تمسكًا بحق السيادة ونزولًا على مقتضيات الحرب».
وهذه مسئولية سياسية رابعة لم يجر التحسب فى لحظته لعواقبه وأخطاره.
«القرار يعنى الحرب» ــ حسب «محمد حسنين هيكل» فى كتابه «الانفجار».
تحركت قوات إسرائيلية من الشمال إلى الجنوب، حيث الجبهة المصرية، وبدا الوقوع فى الفخ نهائيًا والعدوان مؤكدًا.
مال تقدير «عبدالناصر» إلى سيناريوهين متداخلين:
الأول ــ أن القوات المسلحة قادرة على معركة دفاعية طويلة النفس لا تقدر إسرائيل رغم تفوقها العسكرى على تحمل أعبائها.
ولم تكن أوضاع القوات المسلحة فى مركز قيادتها على شىء من الكفاءة العسكرية يؤهلها لمثل هذه المعركة.
الثانى ــ أنه يمكن إدارة حرب (١٩٦٧) بالطريقة التى أديرت بها حرب السويس (١٩٥٦).
وكانت الظروف الدولية قد اختلفت جوهريًا عما كان قبل أحد عشر عامًا.
كان الأداء العسكرى فى مركز القيادة مزريًا، والقائد العام عاجزًا عن الاضطلاع بمهامه، ولا كان أغلب القادة صالحين لتولى مهامهم.
كان رأى «جمال عبدالناصر» أن النظام الذى يفشل فى صيانة التراب الوطنى لا يحق له البقاء.
فى لحظة الهزيمة استشعر أنه خذل شعبه وأمته وبدا مستعدًا أن يتحمل المسئولية كاملة، لا أسندها إلى غيره ولا بررها بأسباب خارجة عن إرادته.
فى البداية رفض استخدام مصطلح «النكسة» بخطاب تنحيه خشية أن يوحى بمحاولة للتنصل من مسئولية هزيمة يعترف بها.
شرح «هيكل»، الوحيد الذى كان بجواره فى تلك اللحظات القاسية، وجهة نظره على النحو التالى: «إن استخدام كلمة الهزيمة فى تلك اللحظة قد يعنى التسليم بنتائجها السياسية، وأن الحرب أطول مدى من جولة خسرناها، وإنها سوف تؤثر بالسلب على قوات عسكرية ما زالت تُقاتل فى سيناء، وتسعى للعودة سالمة إلى غرب القناة، كما تؤثر بالسلب على الأمة العربية كلها، وأنه من الأوفق أن يترك الرئيس الحكم والبلد فى نكسة يمكن تجاوزها فى مدى منظور من التسليم بهزيمة تلزم من بعده بنتائجها».
بفحص التجربة الطويلة بعد (5) يونيو فإنها كانت نكسة للعمل الوطنى فى مصر وانكسارا للمشروع القومى لكن لم يجرى التسليم بالهزيمة، وخاض البلد حرب استنزاف طويلة لمدة ثلاث سنوات كانت البروفة الحقيقية لعبور الجسور فى أكتوبر بقوة السلاح.
إذا كنا قد انتصرنا فى أكتوبر، وهذه حقيقة عسكرية، فما معنى تكريس هزيمة يونيو فى الوجدان العام حتى الآن.
كان ذلك هدفا مطلوبا بذاته حتى لا يرفع البلد رأسه مرة أخرى.
وهذه مسئولية سياسية تستدعى همة الخروج من أسوار الهزيمة.