بقلم :عبد الله السناوي
هناك أزمة فى مصر اسمها: «غياب الحوار العام».
لا توجد قنوات مفتوحة لبناء التوافقات العامة فى القضايا الضاغطة على أعصاب البلد.
بقدر اتساع الحوار العام على التنوع الطبيعى فى المجتمع من أفكار وتصورات وخبرات تتأكد قدرته على بناء التوافقات العامة بلا اضطرابات مؤلمة، أو فواتير باهظة.
إذا ما ضاق الحوار العام عن النظر فى القضايا الأساسية التى تدخل فى شواغل الرأى العام تضيق بالضرورة الثقة العامة فى السياسات والتوجهات.
الناس تتحاور على شبكة التواصل الاجتماعى فيما يعنيها، همومها وقضاياها، أو فيما يطرأ من حوادث وظواهر فى بنية مجتمعها من جرائم عنف مستجدة لم يعتدها المصريون وتفلت أخلاقى ولفظى أخذ مداه وقضايا رشى وفساد وظيفى نالت من بعض كبار المسئولين، لا فيما يملى عليهم عبر وسائل الإعلام.
أنصاف الحقائق ليست إعلاما وأنصاف المعالجات ليست حوارا.
الحوار مسألة ندية فى تبادل الآراء والتصورات ومسألة إقناع لا إملاء.
إذا لم تكن هناك قنوات مفتوحة تتمتع بالحرية فى إخبار الناس بالحقائق ويجرى عبرها تبادل الآراء فإنه ليس بوسع أحد أن يعرف ما قد يحدث غدا.
عندما نجهل المجتمع الذى نعيش فيه، تفاعلاته وحقائقه، فإنها مأساة حقيقية.
وعندما لا نتوافق بما هو كاف وضرورى فى القضايا الوجودية فإنها مأساة مضاعفة.
الحوار بمعناه الحقيقى أحد شروط التقدم إلى المستقبل بثقة.
لا يمكن أن يكون هناك حوارا جديا تحتاجه مصر دون فتح المجال العام وتوسيع الحريات العامة وإطلاق سراح من لم يتورطوا فى عنف وإرهاب أو حرضوا عليه.
تحسين البيئة العامة شرط لازم حتى يكون الحوار العام جديرا بالثقة.
من حق مصر أن تتنفس دون توجس فتحاور نفسها بمسئولية حقيقية فى أولوياتها وقضاياها ومعاركها وسبل تجنب المخاطر المحدقة بها.
هذه مسألة حرية تدخل فى ضرورات بناء دولة حديثة مدنية وديمقراطية حقا، كما أنها مسألة أمن قومى فى لحظة تحولات عاصفة فى النظامين الإقليمى والدولى.
«حتى إعلام التعبئة يحتاج إلى حرية» بتعبير «أحمد سعيد» مؤسس إذاعة «صوت العرب»، الذى عبر عنه أكثر من غيره ونجاحه فيه أمثولة تدرس.
حقائق العصر تستدعى التعدد.
من لا يدرك اختلاف العصور يُعاند الحقائق.
بنظرة على أحوال الصحافة فإن أوضاعها والقيود التى تحكم تغطياتها لا تسمح لها بدور حقيقى فى إدارة أى حوار عام واصل إلى جمهوره ومؤثر فى توجهاته.
إذا ما ضاقت مساحات الحرية المتاحة تخسر الصحافة المصدر الرئيسى لقوتها وتتراجع مستويات توزيعها والثقة العامة فيما تنشره من أخبار وآراء، فلا يصبح ممكنا أن تساعد فى إدارة الحوارات العامة، أو أن تقوم بواجبها فى تغطية شواغل المواطنين المسكوت عنها.
بالأرقام فإن معدلات توزيع الصحف والمجلات المصرية مجتمعة باتت أقل مما كانت توزعه جريدة خاصة واحدة قبل عشر سنوات!
لماذا حدث ذلك التدهور الفادح فى مكانة الصحافة المصرية العريقة؟!
إيقاع العصر الإلكترونى سحب من الصحافة المكتوبة قدرتها على المنافسة فى متابعة الحركة السريعة للحوادث المتدفقة.
هذه نصف الحقيقة، النصف الآخر أنها لم تجتهد فى التكيف مع حقائق العصر، كأنها تنتظر كلمة النهاية دون مقاومة تقريبا.
إذا لم يتوفر الحد الأدنى من حرية الاجتهاد والتصرف والانفتاح على المجتمع بتنوعه وقضاياه الحقيقية لا المنتحلة فإن النتائج معروفة سلفا.
بصياغة الأستاذ «محمد حسنين هيكل» فإن «أى مهتم بالشأن العام يتابع الخبر صورا متلاحقة على الشاشات المضيئة، وهو يطلب من الكلمة أن تروى له قصة ما جرى على مهل لأن ذلك دورها».
«الكلمة فى جريدة تفصل ما وراء الخبر وتروى ما لا تستطيع الصور أن تصفه من دخائل ومشاعر».
هذا مستوى مهنى مختلف يستدعى تدريبا مختلفا وبيئة حرية مختلفة.
و«هذا ما أدركته كبريات الصحف العالمية وعملت على أساسه فى العصر الإلكترونى، فاستعادت ثقة قرائها وارتفعت من جديد أعداد توزيعها كالواشنطن بوست والنيويورك تايمز الأمريكيتين بالتحديد».
شعار «النيويورك تايمز» يلخص فلسفة الصحافة الجديدة فى عصر مختلف: «كل ما يساوى أن ينشر».
«الأمر نفسه فى الصحافة البريطانية فقد زاد توزيع الديلى تيلجراف والأوبزرفر ونجحت الإندبندنت فى تجاوز أزماتها المالية ».
«راهنت كبريات الصحف العالمية على أن ما فقدته الكلمة بالجدة تعوضه بالعمق».
لم يحدث ذلك عندنا.
إذا ما تحسنت البيئة العامة فإن الصحافة تستعيد قدرتها على المنافسة وتأخذ دورها فى تلبية احتياجات مجتمعها وعلى رأسها فى هذه اللحظة إدارة الحوار العام بالانفتاح على كافة الآراء والخبرات المتراكمة فى بلد عريق بحجم مصر.
بنظرة ثانية على الإعلام التلفزيونى فإنه يصعب عليه فى أوضاعه الحالية إدارة أى حوار عام، جدى وحقيقى ومؤثر.
فى فورة التفاعلات الكبرى قبل وبعد ثورة «يناير» لم يكن المواطن المصرى يشاهد غير إعلامه التلفزيونى، لكنه فى أوقات لاحقة انصرفت قطاعات كبيرة من الرأى العام عن متابعته وأدارت المؤشرات إلى قنوات إقليمية ودولية أتاحت أمامه فرص أكبر للاطلاع على ما يحدث فى العالم، وفى بلده نفسه.
هذا وضع مخل لا بد من إصلاحه.
كل شىء قابل للحوار بالانفتاح الضرورى والجدية اللازمة.
المسئولية قرينة الحرية.
المهنية والموضوعية شرطان آخران لجدية الحوار العام فيما يشغل المواطن.
إذا ما تحدث الناس أمام الكاميرات فإنهم يميلون، أيا كانت درجة اختلافهم مع السياسات السائدة، إلى الاعتدال حتى يكونوا أكثر إقناعا للرأى العام بما يطرحونه من آراء وأفكار.
فتح قنوات الحوار العام قضية تماسك وطنى فى أوقات صعبة، أن نسمع الأصوات المختلفة من كافة التخصصات الأكاديمية والحساسيات السياسية يقوى المجتمع ولا يضعفه يرفع سقف الثقة العامة فى الحركة إلى المستقبل.
العكس صحيح تماما وعواقبه وخيمة.
وبنظرة ثالثة على شبكة التواصل الاجتماعى نكتشف ببساطة أنها هى التى تصنع ما يسميه خبراء الإعلام «أجندة المدينة»، تشير إلى الأزمات وتتفاعل معها، لكنها بالوقت نفسه لا توفر بيئة مناسبة لإدارة حوار عام يناقش بعمق الحوادث والظواهر، ويبحث بجدية فى الأسباب والدواعى وسبل درء الأخطار المحدقة.
إذا ما غابت قنوات الحوار العام بالمعنيين السياسى والإعلامى فإنها العشوائية لا محالة.
هذا آخر ما تحتاجه مصر.