بقلم - عبد الله السناوي
ماذا بعد غزة والحرب عليها؟
إنه سؤال اليوم التالى بكل حمولاته السياسية والاستراتيجية والإنسانية المتفجرة.
الإجابات تتعدد باختلاف المواقع، تتناقض وتتباين، بدرجات مختلفة من الحدة والعصبية، رغم أن الحرب لم تتوقف، ولا استبانت نتائجها الأخيرة.
لا الجيش الإسرائيلى حسم الحرب على غزة ولا فصائل المقاومة الفلسطينية هزمت فيها.
فى استباق النتائج إيحاء ظاهر للعالم المفزوع من مشاهد الإبادة الجماعية، التى يتعرض لها الفلسطينيون، بأن آلة الحرب سوف تتوقف قريبا ويعاد ترتيب الأوراق المبعثرة فى القطاع المعذب بعد اجتثاث «حماس».
بتعبير موجز ودال للبيت الأبيض: «الوقت يضيق».
الدعم الأمريكى المطلق لآلة الحرب الإسرائيلية بدأ يتزعزع، أو يقل مستوى ثقته فى قدرتها على الحسم رغم الغطاء السياسى الذى توفره وإمدادات السلاح التى لا تتوقف.
الكلفة الاستراتيجية باهظة، والتضامن مع الفلسطينيين تتسع رقعته فى العالم وداخل الولايات المتحدة كما لم يحدث من قبل، ومواقف الحلفاء الغربيين بدأت تتشقق تحت ضغط الرأى العام فى بلدانهم.
الخيار الأمريكى الأفضل لليوم التالى: إسناد الإشراف على غزة إلى السلطة الفلسطينية باسم «اتفاقية أوسلو»، أو بادعاء العودة إلى ما قبل الانشطار الفلسطينى عام (2007).
لا تقبل إعادة احتلال قطاع غزة ولا توافق على فرض هيمنة أمنية إسرائيلية لفترة غير محددة كما يدعو رئيس وزرائها «بنيامين نتانياهو».
من حيث المبدأ لا تمانع السلطة الفلسطينية فى ذلك الاقتراح، لكنها تشترط لقبوله توافر حل سياسى شامل حتى لا تتهم أنها قد عادت فوق دبابة إسرائيلية.
لم تكن هذه المرة الأولى التى يطرح فيها سؤال اليوم التالى على السلطة الفلسطينية.
عند كل منعطف يطرح السؤال نفسه.
فى أواخر يوليو (2010) تجلت المأساة الفلسطينية بصورة منذرة بما سوف يحدث مستقبلا من تراجعات.
أخذ رئيس السلطة «محمود عباس ــ أبو مازن» يتحدث بإسهاب أمام رؤساء تحرير الصحف المصرية عن الموقف الصعب الذى يجد نفسه فيه، فهو مطالب بالذهاب إلى مفاوضات مباشرة مع إسرائيل دون أن يكون مقتنعا بتوافر أية شروط موضوعية لنجاحها.
لم يكن يعرف ما قد يحدث فى اليوم التالى، ومصير قضية شعبه متروك لأطراف أخرى دولية وإقليمية تحدد القرار الأخير فى العودة إلى المفاوضات المباشرة.
قال مؤكدا: «لن أذهب إلى المفاوضات».. لكن أحد من محاوريه لم يعتبر ذلك خبرا، أو أنه لن يذهب فعلا.
تبدت حيرته فى أنه كان مطلوبا منه أن يقفز إلى المفاوضات المباشرة بلا أرضية يقف عليها، أو ضمانات تحفظ ماء وجهه أمام معارضيه الفلسطينيين.
لم تكن الحقائق خافية عليه فـ«نتنياهو» لم يجب إطلاقا عن سؤال الحدود مع الوسيط الأمريكى ــ على ما أكد بنفسه.
هو رجل عملى يدرك أن غياب معطيات توفر للمفاوضات جديتها يحيل الموضوع كله إلى نوع من العبث واستنفاد الوقت.. لكنه ــ مع تلك الاستخلاصات ــ ترك الباب مفتوحا لاتصالات وتطمينات قد تأتيه فى اللحظة الأخيرة من إدارة «باراك أوباما»، أو من الرئيس «حسنى مبارك»، أو من العاهل السعودى «عبدالله»، أو أن يرفع «نتنياهو» الهاتف ويتصل به مطمئنا على جدية المفاوضات! عندها «سوف أوافق فورا».
كان يدرك جيدا أن القرار عند أطراف أخرى، والباقى تفاصيل وإخراج أمام الكاميرات.
فى ذلك اليوم البعيد كان مشغولا فى مداخلاته أن يؤكد أنه يملك قراره، وأنه فى مرات سابقة رفض طلبات أمريكية فى أوقات حرجة، فقد اتصل به نائب الرئيس الأمريكى السابق «ديك تشينى» ليدعوه إلى الامتناع عن المشاركة فى قمة الدوحة العربية، لكنه رفض هذا الطلب، فالقمة تناقش القضية الفلسطينية، وهى قضيته، ولا يمكن أن يغيب عنها.
«يقولون إننى أمريكى.. لكننى غير واقع تحت الضغوط».. رغم أن الولايات المتحدة تساهم فى دعم السلطة الفلسطينية بـ(450) مليون دولار سنويا!
اعترف بالضغوط المتصاعدة عليه، وأن الأمر أكثر تعقيدا وصعوبة من أى وقت مضى.. لكنه سوف يقبل بالمفاوضات المباشرة لدى أول اتصال أمريكى!
كان مستعدا أن يذهب لـ«الإيباك» بنفسه، وأن يتجاهل نصيحة تلقاها من أطراف فى الإدارة الأمريكية بعدم الإقدام على هذه المخاطرة، فقد يجرى اصطياد تصريحات يطلقها وتتعقد الأمور أكثر مما هى معقدة.
كان مستلفتا للانتباه أن «أبو مازن» مانع فى الذهاب إلى غزة بينما يشعر بالفخر أنه ذهب إلى «الإيباك».
يومها وجه إليه سؤال محرج: «الذى يذهب إلى الإيباك.. لا يحق له عدم الذهاب إلى غزة أيا كانت حججه.. لماذا لا تذهب إليها الآن؟».
لم تكن لديه إجابة على شىء من التماسك والإقناع.
كان السؤال الأخير فى ذلك اللقاء عن تصوراته للمشهد الفلسطينى المقبل فى ظل المعطيات التى أسهب فيها، وعن تقديراته السياسية لما يتوجب عمله عند الأبواب المغلقة.. نظر نحوى مدركا فداحة الموقف الذى يقف فيه: «ما رأيك أنت.. بم تنصحنى؟«.. قلت: «حل السلطة الفلسطينية التى تترأسها».. قال على الفور: «موافق.. لكن ليس الآن!».
العبارة بذاتها وفى توقيتها لها دلالتها ومغزاها، فالرجل الذى يوصف بأنه «عراب أوسلو» يدرك أنها قد انتهت، إن لم يكن الآن، ففى وقت لاحق سوف يعلن نهايتها رسميا.. والكلام يدخل فى النهايات وينذر بها.
كانت السلطة الفلسطينية قد استهلكت أية أوهام ورهانات على التفاوض دون أن تعلن أية قطيعة مع «أوسلو»، ظلت فى مكانها كأنها فى بيت أشباح.
الآن تطلب الإدارة الأمريكية أن تلعب سلطة استنفذت شرعيتها وشعبيتها دورا فى إعادة ترتيب أوراق غزة، دون أن تدرك أن الأوضاع فى غزة والضفة الغربية لن تعود إلى ما قبل السابع من أكتوبر.