بقلم - عبد الله السناوي
«راض بما أديت من دور فى خدمة المهنة، وفى خدمة الوطن، وفى خدمة الأمة.
ثم أننى سعيد أن الظروف أتاحت أن أشارك وأعيش سنوات الإشراق فى المشروع القومى العربى، الذى قاده ذلك الصديق الحبيب إلى قلبى، والأثير عندى.. جمال عبدالناصر».
هكذا عبر الأستاذ «محمد حسنين هيكل» عن أعمق مكنونات صدره فى وصية كتبها بخط يده وديعة مغلقة عند رفيقة حياته وتكشفت نصوصها الكاملة بحلول مئويته (23) سبتمبر الحالى.
على مدى رحلته المهنية والسياسية، التى امتدت لأكثر من سبعين عاما، لم يسبق له استخدام تعبير «سنوات الإشراق» بحمولته الإنسانية والسياسية فى وصف الأحلام والتطلعات الكبرى التى حلقت خمسينيات وستينيات القرن الماضى تحت قيادة «عبدالناصر».
لم يكن الطريق معبدا لعالم عربى جديد يسعى للتحرر والوحدة، أو أن يمتلك مصيره ومستقبله، ولا نشأت زعامة «عبدالناصر» فى فراغ تاريخ أو بمحض دعايات. «لقد رأيناه رؤية عين لا بخيال رواة السير الشعبية». «عشنا تجربته ولم نستمع إليها كسيرة الظاهر بيبرس». «كان ثائرا عظيما وإنسانا بديعا».
هكذا وصفه فى حديث مسجل لم يكن للنشر.
فى ذكرى رحيل «عبدالناصر» اقترح «مانشيت» رئيسيا لصحيفة «العربى».. «فى الليلة الظلماء يفتقد البدر».
لم يكن من طريقته ولا من أسلوبه الميل إلى مثل تلك العبارات، لكنها المشاعر الإنسانية، كما الحنين إلى عصر من المعارك والتحديات حتى تكون مصر فى موضعها الذى تستحقه.
كانت تلك أجمل سنوات حياته وأكثرها تأثيرا فى فكره ووجدانه. «الفارق بين العمر والحياة.. العمر عدد وأرقام والحياة كثافة وقيمة» ــ كما قال فى يوليو (٢٠٠٥). هو ابن الحرب العالمية الثانية، الخلفية والصورة العامة التى نشأ فيها جيله وبدأ حياته العملية، وكان أبرز أبناء هذا الجيل رجل ولد قبله بخمس سنوات فى عام (١٩١٨). يصدق على العلاقة بين الرجلين وصف «شراكة الفكر»، أو «التوأمة» حسب تعبير «أحمد سعيد» مؤسس «صوت العرب».
سألته ذات حوار: «هل أعدت اكتشاف عبدالناصر من جديد بعد كل ما جرى فى مصر وعالمها العربى من تحولات وانقلابات على خياراته الرئيسية؟».
قال: «لا، فقد كنت أعرف قدر دوره، ما جرى بعده يؤكد ويثبت أنه رجل استثنائى، وما طالعته من وثائق غربية لم تكن متاحة فى أيام يوليو تؤكد وتثبت ما تعرضت له تجربته من مؤامرات». «تعرف أن التاريخ ليس مؤامرة ولكن المؤامرة موجودة فيه». «وتعرف أن بعض الرجال يتحولون إلى عقد مستحكمة تقلق وتطارد من يخلفونهم».
لكل عصر قواعده وقوانين تحكم حركته، وعندما تفشل فى عصرك فإن عقد التاريخ تسيطر عليك، وتدخل فى أوهام لا مخرج منها، بتصور أن آلة الإعلام والدعاية كفيلة بأن تضفى شعبية على سياسة غير مقنعة، وزعامة على رئاسة تفتقر إلى الشرعية.
شاءت أقداره أن يعاصر عهودا متوالية، وأن يكون طرفا رئيسيا فى صناعة القرار، أو الجدل من حوله، ولعله ــ دون أن يقصد أو يطلب ــ تحول إلى عقدة مستحكمة ثانية بتصور أنه «مخرج ثورة ٢٣ يوليو» ــ والتعبير للرئيس «أنور السادات».
لم تكن ثورة يوليو شريطا سينمائيا يبحث عمن يكتب مشاهده ويخرجها. «هذا هزل فى رؤية التاريخ غير جدير بأى اعتبار».
اقترب من زعيم ثورة يوليو، قلبه وفكره، كما لم يقترب أحد آخر.
بتعبير «عبدالناصر»: «إنه الوحيد الذى يفهمنى بسرعة» على ما روى لى صديقى الراحل الدكتور خالد عبدالناصر.
عند بلوغه الثمانين من عمره، والمشاعر العامة تغمره بفيض عرفانها قلت له: «أرجو أن تلتفت إلى أن الناس اختارتك بإرادتها الحرة أن تكون فى الصورة الأخيرة الرجل الثانى لثورة يوليو دون أن تكون من ضباط قيادتها، أو توليت أى منصب تنفيذى فى تجربتها، باستثناء فترة محدودة وزيرا للإعلام».
الاختيار الحر وزن تاريخ لا ثقل منصب.
لم تعن له تجربة يوليو «دروشة» فى الماضى بقدر ما كانت إلهاما للمستقبل، فكل ما له قيمة يبقى، وأية أخطاء شابتها لا تسحب منها جدارتها حين غيرت وأحقيتها حين واجهت. «جمال عبدالناصر هو الحقيقة الأساسية فى التاريخ المصرى الحديث». «انتمى إلى المشروع القومى العربى.. وأنا ناصرى بهذا المعنى وحده».
كانت قضيته المشروع باتساع حركة فعله، لا الأيديولوجيا بانغلاقها على مقولاتها.
لم يكن معنيا بالتصنيف الأيديولوجى بقدر ما كان متنبها إذا ما كان هناك فيما يسمع ويقرأ ويتابع شيئا له قيمة أو فكرة لها أثر.
قال له الدكتور «عبدالوهاب المسيرى»: «لست ناصريا».
أجابه: «ليس مهما».
الواقعة جرت فى أواخر ستينيات القرن الماضى عندما عرض وزير الإعلام «محمد حسنين هيكل» على الباحث الشاب الانضمام إلى دائرته الاستشارية.
حسب رواية منشورة لـ«المسيرى» فإنه سأله عن سر علاقته بـ«عبدالناصر» فـ«إذا به يتحول من كاتب صحفى إلى شاعر غنائى، كيف أنه بالنسبة لمصر هو المستقبل، وهو التنمية المستقلة، وكيف أن العروبة من الممكن أن تعطى لهذه المنطقة هوية حضارية وثقلا استراتيجيا يجعلها تواجه عالم التكتلات الكبرى».
لم يمنع انحيازه للمشروع من انتقاداته للنظام.
الأول، يمتد بالتجديد فى الزمن.. والثانى، تنقضى صلاحياته باختلاف زمنه.
سألته: «لماذا يعتقد بعض معاصريك أنك أقرب إلى اليمين؟».
قال: «كانوا يظنون أن تجربتى فى أخبار اليوم أثرت على تكوينى الفكرى والسياسى». «كيف أكون يمينيا وأنا من صاغ فلسفة الثورة والميثاق الوطنى وبيان ٣٠ مارس والخطب التأسيسية للتجربة الاشتراكية، التى أعلن فيها عبدالناصر التأميمات». «أنت تعرف أننى لا أكتب شيئا لا أقتنع به». «لا تنس أننى أول من كتبت عن زوار الفجر واستخدمت مصطلحات مراكز القوى والدولة داخل الدولة ودولة المخابرات لإدانة أسلوب فى الحكم بعد نكسة يونيو، وتلك كلها اختيارات فكرية وسياسية أؤمن بها». «ثم إن انتمائى العروبى هو حصاد تجربة جيل بأكمله شاهد وتأثر بحرب فلسطين، واكتشف هويته تحت وهج النيران».
فى لحظة الهزيمة صاغ مصطلح «النكسة»، معتقدا أنه يساعد على النهوض من جديد، بعد إعادة بناء القوات المسلحة، فالهزيمة مؤقتة والنصر ممكن.
كانت تلك هى الروح العامة التى استدعت الهمة من قلب الهزيمة لاستعادة «سنوات الإشراق»، لكن الذين يناهضون المشروع وتطويره فى عوالم جديدة يسعون بكل الطرق ألا يكون إشراق الأمل ممكنا مرة أخرى.
وهذا صلب الصراع على المستقبل، كما كان يرى «صحفى القرن».