بقلم - عبد الله السناوي
إنها نصف أزمة، لا أزمة كاملة فى العلاقات الأمريكية الإسرائيلية.
أنصاف الأزمات لا تتعلق بالاستراتيجيات والمصالح العليا بقدر ما تعبر عن احتقانات مؤقتة.
المساجلات غير معتادة والحسابات الانتخابية ماثلة.
لأول مرة فى تاريخ العلاقات بين الطرفين أعلنت نصف الأزمة عن نفسها قرب اجتياح رفح بتعليق شحنة من القنابل شديدة الانفجار لإسرائيل.
كان ذلك لافتا بذاته وداعيا للتساؤل عن حدودها وتداعياتها المحتملة.
فى البدء جرت تسريبات أعقبتها تأكيدات على لسان وزير الدفاع الأمريكى «لويد أوستن» بجلسة خاصة لمجلس الشيوخ، بدت شبه محاكمة من المشرعين الجمهوريين.
فى نفس اليوم ألقى الرئيس «جو بايدن» خطابا غلبته عواطفه بذكرى «الهولوكوست»، بدا فيه منحازا للسردية الإسرائيلية عن السابع من أكتوبر (2023) مستعيدا وقائع واتهامات عن اغتصابات جنسية أثبتت تقارير صحفية إسرائيلية أنها لم تحدث، وتراجع هو نفسه عنها بأوقات سابقة!
بنص الخطاب اللافت فى توقيته وأهدافه اتهم الاحتجاجات، التى عمت الجامعات الأمريكية تضامنا مع غزة، بتبنى خطاب الكراهية والعداء للساميةّ!
كانت تلك مغالطة أخرى استهدفت مغازلة اللوبيات اليهودية رغم أن طلابا يهودا شاركوا فى الاحتجاجات الصاخبة على حرب غزة، التى تمددت إلى جامعات أوروبية عريقة.
كان ذلك تمهيدا مطولا ومقصودا قبل أن يدلى بحديث لشبكة الـ«سى. إن. إن» يشرح فيه أسبابه لاتخاذ ذلك الإجراء الموقوت بظروفه.
لا يمانع «بايدن» فى قيام الجيش الإسرائيلى بعملية كبيرة فى رفح شرط أن تكون هناك خطط متماسكة وقابلة للتنفيذ تمنع حدوث مجازر واسعة فى صفوف مليون ونصف المليون نازح فلسطينى.
كان ذلك خطا أحمر استهدف وقف نزيف شعبيته بين أنصاره المفترضين من شبان غاضبين يتهمونه بالتواطؤ وجاليات عربية وإسلامية قد تمثل عنصرا حاسما انتخابيا بالولايات المتأرجحة.
حاول «بايدن» أن يوازن بين اعتبارات متضاربة.
أكد للإسرائيليين أنه لم يحدث تغييرا على سياساته، وأن الدولة العبرية لن تكون معرضة لأية أخطار تنال من أمنها بفضل «القبة الحديدية» وجسر الإمدادات العسكرية، الذى امتد بحرا وجوا بعد السابع من أكتوبر.
وأراد أن يقول لمنتقديه أنه متفهم لدواعيهم الإنسانية، ومستعد أن يتخذ إجراءات غير مسبوقة لحفظ حياة المدنيين فى رفح.
أخطر ما صرح به أن القنابل الأمريكية شديدة الانفجار، التى تبلغ حمولتها ألف كيلو جرام، قد استخدمت ضد المنشآت المدنية فى غزة.
كان ذلك تسويغا لوقف تلك الصفقة إذا ما أقدمت إسرائيل على اجتياح رفح.
بأى نظر موضوعى لا توجد أية خلافات حقيقية، وأسبابه تنحصر فى التكتيك لا الاستراتيجية.
هو موافق ومتحمس لتصفية «حماس» ومنع عودتها مرة أخرى إلى حكم غزة.
وهو موافق ومتحمس لأولوية استعادة الأسرى والرهائن.
مدد للعدوان بغير سقف زمنى، لم يتردد طوال نحو ثمانية أشهر فى توفير غطاء استراتيجى كامل لأبشع حروب الإبادة والتجويع فى العصر الحديث، وأجهض دوما محاولات استصدار قرار من مجلس الأمن بوقف إطلاق النار.
رغم ذلك كله لم ير أمامه علامة نصر واحدة.
أفضت انحيازاته شبه المطلقة إلى النيل من صورة ومكانة الولايات المتحدة، وصورته شخصيا بالقرب من الانتخابات الرئاسية.
الأخطر أنها كادت تدفع الولايات المتحدة إلى سيناريوهات لا تريدها، كتوسيع المواجهات إلى حرب إقليمية واسعة تضر بمصالحها وحساباتها فى الشرق الأوسط.
فى السياق بدا تصريح وزير الدفاع الإسرائيلى «يوآف جالانت» بأن الصيف المقبل سوف يكون ساخنا على الجبهة الشمالية نذيرا بخطرين محدقين، اجتياح رفح والحرب على لبنان.
كان الإفشال المتعمد لمفاوضات القاهرة فى الوصول إلى صفقة تبادل أسرى ورهائن تنتهى بوقف مستدام لإطلاق النار تعبيرا عن غياب أية جدية لدى رئيس الوزراء الإسرائيلى «بنيامين نتنياهو» فى تلك المفاوضات لأسباب تتعلق بمستقبله السياسى.
إذا أوقفت الحرب الآن وفق الصفقة فإنها الهزيمة الاستراتيجية.
هذه مسألة غير محتملة، تهدده بتفكيك حكومته وخضوعه للمساءلة السياسية عن حوادث السابع من أكتوبر والمساءلة الجنائية بتهمتى الاحتيال والرشى.
وإذا اقتحم رفح طلبا لما يسميه النصر المطلق، فإن النتائج قد تكون أوخم إذا أخفقت مهمته حسبما يتوقع الأمريكيون.
لم يكن الخلاف بين الرجلين «بايدن» و"نتنياهو" محض عسكرى.
سؤال اليوم التالى يلح على الأول ويتهرب منه الثانى.
راهن «بايدن» على مفاوضات القاهرة للتوصل إلى صفقة تساعد على الانتقال إلى أفق سياسى جديد وفق «حل الدولتين» وبناء سلطة انتقالية «غير فاسدة» لإدارة الضفة الغربية وقطاع غزة وتقويض أية أدوار لـ«حماس».
فى غياب الحد الأدنى من التوافق انتهت المفاوضات إلى التأجيل لوقت آخر.
متى؟.. ربما بعد عملية رفح!
«إذا اضطررنا فسوف نحارب بأظافرنا».
كان ذلك تصريحا لـ«نتنياهو»، أراد به إثبات قدرته على تحدى البيت الأبيض، أو أن يقتحم رفح دون غطاء أمريكى.
إذا أقدم على هذه الخطوة الانفرادية فإن إسرائيل سوف تلحق بها أضرار مضاعفة، انهيار كامل فى صورتها أمام العالم كدولة منبوذة ترتكب جرائم الحرب دون أن يكون مقطوعا به نجاحها فيما تطلبه من أهداف تراها نصرا مطلقا!
وإذا تراجع خطوة، أو خطوتين إلى الخلف، كأن تكون هناك عمليات محدودة لا تتطلب نزوحا لكتل البشر تحت ترويع السلاح، فإنه قد ينظر إليها كهزيمة مذلة أمام إملاءات البيت الأبيض.
لا توجد تصورات واضحة عند إدارة «بايدن» للطريقة التى سوف تتعاطى بها مع السيناريو الأسوأ، أن تكون هناك مجازر مروعة تستثير غضب العالم بأسره.
هل يمكن مثلا أن توافق على استصدار قرار أممى وفق الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة يلزم إسرائيل بوقف إطلاق النار والانسحاب كاملا من غزة.. أم أنها قد تستخدم حق النقض مجددا؟!
التصعيد سيناريو مستبعد والوقوف بنفس المكان تكلفته باهظة.
يستلفت الانتباه هنا الاستقطاب الحاد بين الجمهوريين والديمقراطيين، مع وضد تعليق شحنات القنابل شديدة الانفجار.
الديمقراطيون مالوا لصالح قرار «بايدن» فيما الجمهوريون أمعنوا فى الهجوم الحاد عليه.
بتعبير الرئيس السابق «دونالد ترامب»: «بايدن تخلى عن إسرائيل وما كنت لأفعل ذلك لو كنت رئيسا».
لم يكن ذلك التوصيف صحيحا لموقف «بايدن»، لكنه يدخل فى الصراعات الانتخابية، التى قد تتصدرها الحرب على غزة ومستقبل القضية الفلسطينية، كما لم يحدث من قبل.