بقلم - عبد الله السناوي
توشك الحرب على غزة أن تدخل أخطر معاركها.
إنها «الرهان الأخير» لـ«بنيامين نتنياهو» لتجاوز أزمته المستحكمة بين ضغوطات متعارضة تهدد مستقبل حكومته وبقائه هو نفسه فى السلطة.
اليمين المتطرف يلح على مشروع «التهجير»، قسريا أو طوعيا، من غزة إلى سيناء، أو إلى أى منطقة أخرى فى العالم، وهو لا يمانع فيه، لكنه يتحسب لعواقبه.
هذا هو المعنى المقصود من عبارة «النصر المطلق»، التى أطلقها فى سياق اعتراضه على الصفقة المقترحة لتبادل الأسرى والرهائن.
للوهلة الأولى قد تبدو تلك العبارة انفلاتا دعائيا بالألفاظ عن الحقائق العسكرية الماثلة، حيث لم يتمكن الجيش الإسرائيلى من تحقيق أى من هدفيه المعلنين، تقويض «حماس» واستعادة الأسرى والرهائن بقوة السلاح.
بما هو وراء الألفاظ الغامضة فإنه يقصد مشروع «التهجير القسرى» ولا شىء آخر.
إنه الهدف الأعلى لحلفائه فى اليمين المتطرف، قبل إعادة الأسرى والرهائن الإسرائيليين، أو على حساب حياتهم إن لزم الأمر.
إذا مر مشروع «التهجير» وجرى إخلاء غزة من سكانها الفلسطينيين فقد كسبت إسرائيل الحرب استراتيجيا.
وإذا انكسر ذلك المشروع فإنها الهزيمة استراتيجيا وأخلاقيا.
دول العالم كلها لا توافق على ذلك السيناريو وتحذر من تبعاته، لكن «نتنياهو» يمضى فيه حتى لا تنهار حكومته ويخسر منصبه.
اليمين المتطرف يرفض بصورة مطلقة الصفقة المقترحة، وشريكه الرئيسى فى مجلس الحرب بعد صدمة السابع من أكتوبر «بينى جانتس» يتهمه بالمناورة وعدم الجدية ملوحا بالانسحاب وتركه وحيدا أمام الرأى العام الإسرائيلى.
مشكلته مع «جانتس» أن استطلاعات الرأى العام ترشحه لكسب أية انتخابات مبكرة للكنيست.
كلاهما يحتاج إلى الآخر لكنه لا يثق فيه.
«جانتس» يدرك أن فرصته فى خلافة «نتنياهو» عالية وفق استطلاعات الرأى العام، لكنه لا يريد أن يخاطر بالخروج من التشكيل الحكومى الحالى على ما تدعوه المعارضة.
بدوره، «نتنياهو» يدرك أنه بحاجة إلى شريك له خبرة عسكرية عريضة ويتمتع فى الوقت نفسه بعلاقات طيبة مع الإدارة الأمريكية، التى يحتاجها لتوفير الغطاء الاستراتيجى المطلق كما إمدادات السلاح والذخيرة بأكثر من أى وقت مضى.
انسحاب «جانتس» اعتراف بالهزيمة فى الحرب على غزة.
بصورة أو أخرى فإن وجوده فى مجلس الحرب يوازن بصورة ما الوزيرين المتطرفين «إيتمار بن غفير» و«يتسلئيل سموتريتش» اللذين لم يخدما فى الجيش.
الانقسام حاد فى مجلس الحرب، و«نتنياهو» يبدو أسيرا لجماعات اليمين المتطرف فى مواقفه وخياراته، رغم اعتراضات «جانتس» يمين الوسط فى صهيونيته.
لم يكن تلويح الجيش الإسرائيلى باجتياح أوسع لرفح الفلسطينية كلاما فى الهواء.
التخطيط جاهز حسب وزير الدفاع «يوآف جالانت» والتدخل البرى قد يحدث فى مارس حسب ترجيحات متواترة.
ربما يفسر ذلك بعض أسباب الرفض المراوغ لصفقة التبادل المقترحة، إذ إنها تفضى إلى عودة النازحين من شمال غزة إلى بيوتهم، أو أطلالها بما يعنى الإجهاض النهائى لمشروع «التهجير القسرى».
لم يكن ممكنا لـ«نتانياهو» رفض الصفقة مطلقا، فهو صدام مفتوح مع قطاع كبير من الرأى العام الإسرائيلى وجميع مراكز القرار فى الغرب، التى تنظر إلى إطلاق سراح الأسرى والرهائن كأولوية مطلقة.
ولا كان ممكنا قبولها كما هى إذ تفضى مباشرة إلى انهيار التحالف الحكومى الذى يقوده.
هكذا فإن المفاوضات لم يغلق بابها انتظارا لحسابات وضغوطات خلفية.
هنا تتبدى خشية مشروعة من أن تمارس الضغوطات على الطرف الفلسطينى وحده بذريعة تليين مواقف اليمين المتطرف، أو تهدئة مخاوفه.
بأية ترجمة سياسية مباشرة لـ«النصر المطلق» فإنه يعنى سحق المقاومة واستعادة الأسرى والرهائن دون مقابل.
بترجمة واقعية فهذا وهم مطلق بعد حرب استغرقت حتى الآن أكثر من أربعة شهور، لكنه يؤشر على نوع التصرفات والمعارك التى قال هو نفسه إنها قد تستغرق شهورا أخرى، لا سنوات!
كان مستلفتا هنا ما جرى تسريبه من أن «نتنياهو» رفض طلبا لوزير الخارجية الأمريكى «أنتونى بلينكن» بلقاء منفرد مع رئيس هيئة الأركان «هيرتسى هاليفى» للاستماع إليه حول تقييم للوضع الأمنى والعسكرى إذا ما تمت الصفقة.
لم يكن ذلك الرفض تعبيرا عن استقلال قرار، أو أن إسرائيل «ليست جمهورية موز» كما نسب إليه التسريب، بقدر ما كان تعبيرا عن خشية أن توافق تقديرات رأس المؤسسة العسكرية ضرورات عقد الصفقة المقترحة بلا إبطاء.
رغم الحوافز التى قدمها «بلينكن» للمضى قدما فى التطبيع مع السعودية، لم يكن «نتنياهو» بوارد الرضوخ لمقتضياتها، أن تكون هناك دولة فلسطينية بعد مدى زمنى محدد.
أكثر السيناريوهات ترجيحا الآن، اجتياح رفح وارتكاب مجازر أبشع مما جرى حتى الآن بحق نحو مليون فلسطينى نزحوا من مناطق غزة المختلفة إلى تلك المساحة الضيقة قرب الحدود مع مصر هربا من الموت.
الغارات التى لا تتوقف والأحزمة النارية فوق المكان تمهد للاجتياح.
البيت الأبيض يحذر رسميا من مجازر بشعة لمدنيين فلسطينيين قيل لهم أن يذهبوا إلى الجنوب لتجنب ويلات الحرب.
«لا يمكن قبول أن يحدث ذلك».
هكذا قيل على لسان منسق مجلس الأمن القومى الأمريكى «جون كيربى»، دون أن ترادف الإدانات المسبقة أفعال مصدقة تردع آلة الحرب عن المضى فى ارتكاب المجازر وحروب الإبادة.
لم يكن ذلك محض إخلاء ذمة مسبقا من مجزرة رفح، ولا كانت تصريحات الرئيس الأمريكى «جو بايدن« نفسه من أن إسرائيل تجاوزت الحد فى حرب غزة نوعا من المراجعة للمواقف والسياسات بقدر ما كانت محاولة لترميم صورة إدارته فى أعين أعضاء حزبه، التى تقوضت على خلفية مواقفه اللا متوازنة واللا إنسانية فى حرب غزة.
إننا أمام أفعال على الأرض تمهد لإجبار النازحين الفلسطينيين بترهيب التقتيل الجماعى للنزوح لتجاوز الخط الحدودى إلى رفح المصرية داخل سيناء.
أمام ذلك المستوى من الخطر يتعين على مصر أن ترفع صوتها عاليا بالغضب دون تردد أيا كانت كلفة المواقف حتى لا نكون أمام نكبة ثانية للقضية الفلسطينية تضيع معها السيادة المصرية على سيناء.
التنبه ضرورى والغضب لازم.