بقلم - عبد الله السناوي
فى الأيام الأولى لـ(25) يناير (2011) بدت مصر كأنها على موعد مع ثورة جديدة تلخص أفضل ما دعت إليه ثوراتها وانتفاضاتها الحديثة، تواصل فى أزمان جديدة سعيها للحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والحق فى الكرامة الإنسانية.
إنه الانتقال من عصر إلى آخر، لا من نظام إلى آخر، غير أن الخطى ارتبكت فى أول الطريق وأجهض الفعل الثورى نفسه قبل أن يصل إلى أهدافه.
كان من بين الأخطاء الكبرى، التى ارتكبت، تصور بعض الذين تصدروا مشاهد الثورة أنها انقلاب على ثورة يوليو (1952).
الانقلاب شىء والتصحيح بالنقد والإضافة شىء آخر تماما.
لم يكن ذلك جديدا على الإرث السياسى المصرى، فإحدى مآسيه غياب فكرة التراكم التاريخى، فكل ثوراتها حاولت أن تنسخ ما قبلها، كأنه لا توجد أى وشائج.
تناقضت ثورة (١٩١٩) بزعامة «سعد زغلول» مع توجهات الحركة الوطنية التى قادها «مصطفى كامل» بقدر ما تناقض الأخير مع توجهات «أحمد عرابى» وتباعدت المساحات بين ثورة يوليو بزعامة «جمال عبدالناصر» وثورة (١٩١٩) كأنهما على تناقض لا يمكن ردمه.
القضية ليست أن تختلف، أو تتفق مع ثورة أو أخرى بقدر ما هى احترام الإرث الوطنى المشترك، الذى لا يخص تيارا سياسيا دون آخر، ولا جيلا دون آخر، ومن حق جميع الأطراف الوطنية أن تبدى وجهة نظرها فيها، وأن تختلف معها فى موضع أو آخر، لكن بشرط ألا تزيف التاريخ وحقائقه الأساسية، أو أن تقول كلاما عاما مرسلا لا يستند إلى دليل أو منطق.
تبنى القطيعة مع يوليو طيفا واسعا من المتناقضات يضم رجال أعمال نافذين يناهضون خياراتها الاجتماعية ويدعون بالوقت نفسه انحيازهم للعدالة الاجتماعية!.. وقوى سياسية لها ثأر معها تطلب تصفيته وقوى دولية ترفض أن تستعيد مصر أدوارها التحررية، التى أضفت عليها مهابة القوة الإقليمية العظمى.
لم يكن الصراع على يوليو مجردا، أو مقصودا به نظامها السياسى، فثورة يوليو انتهت تماما فى السبعينيات، والرئيس السابق «أنور السادات» يعلن نهاية «الشرعية الثورية» والانتقال إلى «الشرعية الدستورية».
لم يكن «السادات» جادا فى الالتزام بالدستور وقواعده الملزمة، وكان اعتقاده أن الدستور يحكم من بعده، وأنه آخر الفراعين الذين لا يحكمهم دستور!
أنهيت الشرعية الثورية دون أن تتأسس شرعية دستورية.
استخدمت الثورة أدوات الدولة لإحداث أكبر تغيير اجتماعى.
بنفس الأدوات جرت الثورة المضادة.
إرث يوليو الوطنى والاجتماعى تقوض تماما وإرثها فى إدارة الدولة وتأكيد سطوتها امتد بعدها.
الانقلاب على يوليو وشرعيتها وإنجازاتها وخياراتها الاقتصادية والاجتماعية والاستراتيجية لم يلحقه انقلاب على طبيعة النظام السياسى، بصورة تسمح بانتقال واسع لدولة مؤسسات حقيقية، يحكمها القانون والتوازن بين السلطات.
كأى نظام ثورى فهو فعل استثنائى انتقالى، قاد أوسع عملية تغيير فى البنية الاجتماعية، وأخرج طبقات رئيسية إلى الحياة وتطلعاتها فى التعليم والصحة والرعاية الاجتماعية وحقوق العمل وتكافؤ الفرص، وخاض فى الوقت نفسه معارك مفتوحة فى إقليمه وعالمه، ودخل حروبا طاحنة فى الصراع على المنطقة.
لا يصح أن نحاسب الثورات بغير قوانين حركتها، أو بأهداف غير التى تبنتها، أو خارج السياق التى عملت فيها والعصر الذى احتضن تفاعلاتها.
هذه هى الأصول العلمية فى النقاش العام، أما إهدارها واعتبار كل ما جرى بعدها يدخل فى مسئوليتها، ففيه اعتداء صارخ على الحقائق الرئيسية التى ترتبت على الانقلاب عليها، وفيه تحميل للثورة بأكثر مما تطيقه الحقائق، فالثورة انتهت منذ عقود طويلة، وشرعيتها طويت صفحاتها، والنظم التى تلتها انقلبت على خياراتها السياسية والاستراتيجية.
القضية الحقيقية المستقبل لا الماضى، لكنه لا يتأسس على تجهيل وتهويم كتحميل يوليو مسئولية السياسات التى جرى تبنيها فى العصور التى تلتها بعد أن انقلبت عليها.
كان ذلك دمجا عشوائيا بين نظم وعصور متناقضة استهدف التشهير بالتاريخ لإغلاق صفحة «عبدالناصر»، وما تمثله من قيم أهدرت وأحلام أجهضت.
اتصال ثورات وانتفاضات مصر حقيقة تاريخية.
لم يكن يصح أن تغيب لحظة الفعل الثورى، ولا يصح أن تغيب مرة أخرى بعد إجهاضه.
عند كل انعطاف تاريخى مرت به مصر لخص غضبها أنبل ما فيها.
بإلغاء الزعيم الوفدى «مصطفى النحاس» اتفاقية (١٩٣٦)، التى وقعها هو نفسه، انفجرت بين عامى (١٩٥٠) و(١٩٥٣) عمليات فدائية فى منطقة قناة السويس ضد معسكرات الاحتلال البريطانى.
كانت تلك واحدة من الوقفات الكبرى لجيل أربعينيات القرن الماضى بأفكاره وتنظيماته وأحلامه وغضباته واستعداداته للتضحية.
هذا الجيل أخذ وقته لاكتساب خبراته وبلورة أفكاره، التى تأثرت إلى حد بعيد بأجواء ما بعد الحرب العالمية الثانية وشيوع الأفكار الاشتراكية.
كانت ثورة يوليو، بالسياسات الاجتماعية والاستراتيجية التى تبنتها، ثورة ذلك الجيل.
إثر هزيمة يونيو (١٩٦٧) ولد جيل جديد أطلق عليه جيل السبعينيات وقد أنصب غضبه على الأسباب التى أفضت إلى الهزيمة.
ارتفعت دعوات تعبئة الجبهة الداخلية والتدريب على السلاح مع نداءات توسيع المشاركة فى القرار السياسى.
لم تكن مصادفة أن يلهم شعار «كل الحرية للوطن وكل الديمقراطية للشعب» الغاضبين الجدد.
تلخص صرخة «نحن جيل بلا أساتذة» بتعبير الأديب السكندرى الراحل «محمد حافظ رجب»، الحالة الوجدانية لجيل السبعينيات، كأنها قطيعة مع الماضى بكل إرثه الفكرى والسياسى، أو إنكار لأى إسهام سبق فى تشكيل الوعى العام.
صرخة الغضب جافت الحقيقة بصورة كاملة، فلا أحد يولد من فراغ دون أن يكون هناك من مهد الطريق أمامه، لكنها عبرت عن ضجر جيل جديد بـ«حكمة من سبقوه» و«الوصاية عليه».
وكان جيل يناير هو ابن ثورة المعلومات والاتصالات الحديثة كما هو ابن الغضب على ما هو فاسد ومستبد شأن كل الأجيال المصرية التى سبقته.
قد تنكسر أو تجهض الثورات والانتفاضات لكن أهدافها وأحلامها تأبى على التراجع والنسيان.
كان ذلك شأن ثورة يوليو، وهو باليقين شأن ثورة يناير.