بقلم - عبد الله السناوي
بتوقيته ورسالته لم يكن «أوبنهايمر» مجرد شريط سينمائى متقن فنيا حاز إقبالا جماهيريا حيثما عرض.
إنه رسالة من الماضى المروع بقنبلتى «هيروشيما» و«نجازاكى» الذريتين إلى الحاضر المهدد بحرب نووية مدمرة على خلفية احتدام الأزمة الأوكرانية دون أفق سياسى يوقف تصعيدها.
موسكو تصرح من وقت لآخر: «لا تنسوا أننا دولة نووية وأن استخدام الأسلحة النووية وارد كخيار أخير».. وواشنطن ترد بمناورات بحرية تستخدم فيها أسلحة نووية وتصريحات مقاربة.
بين الماضى بإرثه المرير والحاضر بتساؤلاته المخيفة يسرد الشريط السينمائى سيرة عالم الفيزياء النظرية الأمريكى «روبرت أوبنهايمر» الذى يطلق عليه «أبو القنبلة الذرية».
يستند السيناريو إلى جهد توثيقى فائق الأهمية ضمه كتاب نشر عام (2005) حاز جائزة «بوليتزر» يحمل عنوانا لافتا: «بروميثيوس الأمريكى ــ إنجازه ومأساته» للكاتبين «كاى بيرد» و«مارتن شيروين».
فى الأسطورة الإغريقية «بروميثيوس» هو «سارق النار»، الذى تحدى الإله «زيوس» وعلّم البشر أسرار النار وقدرتها على تطوير حياتهم.
هذا هو دور العلم على وجهه الصحيح، لكن النار التى أشعلها «أوبنهايمر» قتلت ودمرت وأحرقت آلاف اليابانيين فى الحرب العالمية الثانية، التى كانت قد انتهت بالفعل بعد استسلام ألمانيا وسقوط عاصمتها برلين.
لم تكن هناك ضرورة عسكرية لاستخدام السلاح الذرى.
هذه الحقيقة أقلقت ضمير العالم الأمريكى، الذى ظن أن قنبلته سوف توقف كل الحروب، فإذا بها تشعل صراعا ضاريا يتمدد فى الزمن.
تنازعته مشاعر متناقضة بين التطور العلمى الذى أحدثه والاستخدام العسكرى للوحش الذى أطلقه.
لم يكن متحمسا لاستخدام القنبلة الذرية، التى سابق الزمن أثناء الحرب العالمية الثانية للحصول عليها قبل الألمان، اختار فريقا علميا على درجة عالية من الكفاءة من كافة التخصصات تحت إشراف البنتاجون وانعزل معهم فى معسكر بعيد ناءٍ.
كانت تلك مهمة استباقية لتجنب خسارة الحرب، إذا حصل الزعيم النازى «أودلف هتلر» عليها أولا، لكنه أبدى ثقة قليلة فى جدواها بالنظر إلى أن العلماء الذين يروجون لها من اليهود، وكان «أوبنهايمر» نفسه يهوديا.
لم يندم على اختراعه باعتباره كشفا علميا، لكنه بعد محنة «هيروشيما» و«نجازاكى» استشعر مسئولية أخلاقية عما لحق بهما من تقتيل جماعى.
بتعبيره: «الآن أصبحت أنا الموت».. «مدمر العالم».
تحت وطأة أزمة ضميره دعا مبكرا بعدما بات مؤكدا أن السوفييت أوشكوا على صناعة القنبلة الذرية إلى الحوار والتفاوض لوقف سباق التسلح المرعب، الذى يوشك العالم أن ينجرف إليه.
لم يستمع إليه أحد فى أوساط صناعة القرار، ولا جرت أدنى استجابة من الرئيس الأمريكى «هارى ترومان».
فى لقاء وحيد وعاصف مع «ترومان» تناقضت الخيارات الرئيسية بين الرئيس و«أبو القنبلة الذرية».
الأول، يستشعر القوة المدمرة الهائلة التى تمتلكها بلاده وما تضفيه عليها من عظمة عسكرية وسياسية.
والثانى، لا يخفى قلقه وتبرمه من الاستخدام السياسى والعسكرى لاختراعه.
«أتظن أن اليابانيين يعرفون اسمك، إنهم يعرفون اسمى أنا» ــ هكذا خاطبه الرئيس عندما ضاق ذرعا بتذمره.. وقد خرج شبه مطرود من البيت الأبيض.
كانت تلك لحظة فراق بين تصورين متناقضين لإدارة السلاح الجديد.
«ترومان» أراده ترهيبا للأعداء والحلفاء معا تفرض به الولايات المتحدة كلمتها على العالم دون أدنى قيود أخلاقية.
و«أوبنهايمر» أراده إنجازا علميا ينبغى أن توضع قيودا صارمة على استخدامه بالتفاوض مع السوفييت لمنع أية حروب مدمرة لاحقة.
تبدت مؤشرات قوية أن السوفييت يوشكون أن يحصلوا على السلاح الذرى، ولم يكن «ترومان» مستعدا أن يصدق!
بقوة السلطة فرض تصور «ترومان» نفسه، غير أنه باتضاح حقائق الردع المتبادل بين اللاعبين الدوليين الكبيرين أمريكا والاتحاد السوفييتى تبدت أهمية أطروحة «أوبنهايمر»، التى وجدت طريقها إلى موائد التفاوض دون أن يتخليا تماما عن مخزونهما النووى.
رغم ثبوت الجريمة البشعة عليه لم يحاسب «ترومان» ولا أدين قراره باستخدام السلاح الذرى ضد المدينتين اليابانيتين.
الشريط السينمائى نفسه تحاشى استخدام أية مواد وثائقية عما لحق بهما، خشية نكأ الجراح القديمة.
جدير بالذكر هنا أن رئيسا أمريكيا آخر هو «باراك أوباما» زار موطن الجريمة التاريخية، معتذرا للشعب اليابانى، غير أن ذلك لم يكن كافيا لإبراء الذمة.
الاعتذار الحقيقى أن تتأكد البشرية بصورة نهائية أن أسلحة الموت الجماعى لن تستخدم مرة أخرى، وهو ما لم يحدث حتى الآن من الأطراف الدولية المتصارعة فى الحلبة الأوكرانية.
على خلفية مواقفه، التى تخالف ما استقرت عليه الإدارة الأمريكية، دفع «أوبنهايمر» ثمنا باهظا من سمعته وسلامته النفسية.
حاصرته شبهات أنه هو الذى سرّب أسرار القنبلة الذرية إلى السوفييت.
تعرض لمساءلات ومحاكمات بعضها تنتمى إلى المكارثية، التى نالت من علماء وأدباء وفنانين ومبدعين كثيرين، بتهمة الشيوعية.
كان متأثرا بالأفكار اليسارية، قريبا من الحزب الشيوعى لكنه لم يكن عضوا فيه.
تضامن مع الاشتراكيين فى سنوات الحرب الأهلية الإسبانية (1936ــ 1939) ضد قوات الجنرال «فرانكو» الفاشستية، وقدم بعض التبرعات عبر قنوات الحزب.
كانت تلك حدود أدواره السياسية.
تحول من بطل قومى صورته تتصدر مجلة «التايم» والهتاف باسمه يدوى فى التجمعات العلمية والعامة، إلى متهم فى ذمته الوطنية، ومشتبه أن يكون قد خان بلاده.
تنكر له الأصدقاء السابقون وتلقى الطعنات من كل اتجاه.
تبددت قداسته العلمية كعالم يضاهى «ألبرت أينشتاين»، الذى التقاه وشجعه على المضى قدما فى أبحاثه العلمية.
بدا «بورميثيوس الأمريكى» معذبا بإنجازه ومتعبا فى ضميره.
اعتمد السيناريو على تقنية الاسترجاع وتداخل الأزمنة، حتى اكتملت صورة مأساته ورد اعتباره فى نهاية العرض المؤثر.
تبدت قوة الدراما فيما رصده السيناريو من تعقيدات العلاقة بين «روبرت أوبنهايمر» وصديقه اللدود عدوه الخفى «لويس ستراوس»، الذى حاك ضده كل المؤامرات للقضاء عليه بدواعى الغيرة فى الصدور.
حاول صناع الشريط السينمائى سد ثغرات الذاكرة الإنسانية، حتى لا تتكرر مأساة «هيروشيما» و«نجازاكى» بصورة أخطر وأفدح.
أرادوا أن يقولوا: «لا تنسوا».