بقلم - عبد الله السناوي
عند انتخاب «باراك أوباما» رئيسا للولايات المتحدة وقف «محمد حسنين هيكل» شبه وحيد أمام سيل جارف من الأمانى المحلقة فى الفراغ العربى.
حذر من أى رهانات خاطئة أن يحدث تحولا عميقا بالسياسات الأمريكية فى الشرق الأوسط بمجرد صعود رجل أسود للبيت الأبيض.
بالمصادفة كان متواجدا فى شيكاغو لمراجعات طبية عاجلة عند حسم اختيار «أوباما» مرشحا باسم الحزب الديمقراطى فى الانتخابات الوشيكة خريف عام (2008). حضر تلك المناسبة بدعوة من صديق قديم هو رئيس جامعة شيكاغو، التى استضافت فاعليتها.
قبل أن يصعد رجل الساعة لإلقاء خطابه المنتظر جلسا سويا لوقت قصير، لكنه كان كافيا بالنسبة لرجل مخضرم فى كواليس السياسة الدولية والإقليمية لأن يكتشف أن خبرته محدودة بأزمات الإقليم ولا تسعفه على أى اختراق يعتد به.
عندما سألته عن انطباعاته الأولى بعد أن عاد إلى القاهرة قال حرفيا: «لا تراهن على أوباما.. ونائبه جو بايدن الذى أعرفه جيدا شخصية ليست سهلة كما قد يبدو، وآراؤه مزعجة ومخيفة».
فى ذلك الوقت لم يكن أحد هنا على معرفة دقيقة بالأدوار المعلنة والخفية، التى يلعبها «بايدن».
ربما استشعر الأستاذ «محمد حسنين هيكل» عندما زاره قبيل حرب أكتوبر (1973) فى مكتبه بـ«الأهرام» أنه فى مهمة استكشافية إذا ما كانت مصر بصدد شن حرب على إسرائيل قريبا.
حسب الأرشيف السرى الإسرائيلى الذى أفرج عنه أخيرا فإن «هيكل»، الذى كان مطلعا على حقائق الموقف بأدق تفاصيله، خدع «بايدن» عندما أقنعه أن مصر ليست جاهزة ولا مستعدة وأنه «عندما يشاء الله فى المستقبل سيكون هناك حل».
بدت رئيس الوزراء الإسرائيلية «جولدا مائير» مقتنعة بما نقله لها السيناتور الشاب «بايدن»، الذى يصف نفسه بأنه «صهيونى».
فى الأضواء الباهرة التى أحاطت صعود «أوباما» لم يهتم أحد تقريبا بالنائب الذى ظل قابعا فى الظل، حتى آلت إليه مقادير البيت الأبيض.
لم يتحدث ولا أفصح عن اعتقاداته حتى لا يفسد حملة «أوباما» الانتخابية بما حملته من وعود محلقة فى السماء.
استلفت ذلك نظر «هيكل»، على ما أعرب فى مداخلة تلفزيونية مسجلة.
شرح «بايدن» الوضع الذى كان فيه وقتها بمزيج من السخرية والمكاشفة: «طلب منى ألا أفتح فمى إلا لالتهام الأيس كريم!».
لم يتسن لـ«الأستاذ» أن يعاين على الأرض ما رآه مزعجا ومخيفا فى آراء «بايدن» وقد تحولت إلى كوابيس مرعبة فى الحرب على غزة.
ولا تابع ما وصلت إليه السياسة الأمريكية من انحياز شبه مطلق لما تطلبه إسرائيل على عهد «دونالد ترامب»، الذى انتخب رئيسا خريف (2016) بنفس عام رحيله.
باسم صفقة «القرن» حاول «ترامب» إجهاض أية تطلعات لاستقلال فلسطينى، أو بناء دولة حتى لو كانت ممزقة جغرافيا وبلا سيادة على أراضيها!
إنها الإلغاء الفعلى للقضية الفلسطينية كقضية تحرر وطنى مقابل مساعدات اقتصادية ووعود بتحسين مستويات المعيشة البائسة، أو السلام مقابل السلام.
لا انسحاب من أرض ولا حديث عن دولة.
بذات الوقت سعى لتهويد القدس ونقل السفارة الأمريكية إليها.
فى انتخابات (2016) صوتت أعداد كبيرة من العرب الأمريكيين لصالح «ترامب».
لم تكن أصواتهم مؤثرة فى حسم الانتخابات، لكنها كانت تعبيرا عن اعتراض شبه جماعى فى أوساطهم على شخصية وسياسات منافسته الديمقراطية «هيلارى كلينتون»، وزير الخارجية السابقة.
لم يكن النائب «بايدن» مرشحا، ولا كان ممكنا له الترشح خلفا لـ«أوباما»، فهو يفتقد الحد الأدنى من الحضور القادر على اجتذاب الأصوات.
فى انتخابات (2020) مال العالم كله إلى «بايدن» نكاية وغضبا على ولاية «ترامب»، لا إلى مزايا خاصة فيه.
كانت تلك الانتخابات أقرب إلى استفتاء على «ترامب» أكثر من أن تكون اختيارا بين رجلين وحزبين وتوجهين.
فى نوفمبر المقبل تتكرر المواجهة بينهما.
بالنسبة للصوت العربى فإن كليهما أسوأ من الآخر.
بأى معنى سياسى وإنسانى فإن عقاب «بايدن» مشروع تماما على دعمه لحرب الإبادة والتجويع فى غزة، لكن ثمنه مرير، وهو صعود «ترامب» مجددا.
الارتفاع النسبى لأعداد «غير الملتزمين» بالوقوف مع «بايدن» كمرشح للحزب الديمقراطى قد يفضى عمليا إلى خسارته الولايات المتأرجحة، وبالتالى الانتخابات كلها.
حاول «ترامب» فى البداية الاستثمار فى الغضب الشعبى المتنامى على سياسات «بايدن» مدعيا أنه لو كان موجودا لما وصلت الكراهية المتبادلة إلى ما وصلت إليه، لكنه عاد أخيرا ليقول واضحا وصريحا إنه «يقف فى معسكر إسرائيل ويوافق على الطريقة التى تنفذ بها هجومها على غزة».
بصياغة أكثر حدة: «يجب إنهاء هذه المشكلة»، بمعنى تصفية القضية الفلسطينية بالإبادة الجماعية، أو بالتهجير القسرى والطوعى.
نحن أمام سباق معلن على كسب ود ودعم إسرائيل بين المرشحين الرئاسيين، بغض النظر عن اعتبارات العدالة والقانون الدولى الإنسانى وتحولات الرأى العام الأمريكى.
معضلة «بايدن» انتخابية بالمقام الأول، فهو أسير لسياسات اليمين الإسرائيلى المتطرف رغم نفوره منه، يحاول أن يأخذ مساحة عن «بنيامين نتنياهو» لكنه لا يقدر على المضى بعيدا.
الخطاب المزدوج والعدالة الانتقائية يقودانه إلى التصريح وعكسه.
يطلق وعودا سرعان ما يتراجع عنها.
عند كل مجزرة بحق المدنيين الفلسطينيين يدعو إلى التحقيق فيها دون أن يحدث شىء.
أخيرا قال إنه لن يقبل أعذارا لمنع إدخال المساعدات إلى غزة، وأنها سوف تدخل عن طريق البحر المتوسط حتى ولو لم توافق إسرائيل.
مواقفه الإنسانية المدعاة لها حدود.
لا توجد فجوة حقيقية بين «بايدن» و«نتنياهو» ـ لكنها تباينات تكتيكية فى نجاعة الخيارات والقدرة على تسويغها.
لم يقدر على فرض تصوراته لليوم التالى فى غزة دون أن تهتز طبيعة التحالفات، ولا فكر مرة واحدة فى عدم استخدام حق النقض فى مجلس الأمن الدولى لتمرير قرار ملزم بوقف الحرب.
إنها أفكاره وانحيازاته، التى وصفها «هيكل» قبل ستة عشر عاما بأنها مزعجة ومخيفة.
إذا لم يكن بوسعنا أن ننهض للدفاع عن قضايانا العادلة فلن يدافع عنها أحد بالنيابة، ولن يرتدع أحد آخر، «بايدن» أو «ترامب»، عن الاستخفاف بها.
هذه الإجابة العربية الوحيدة الجديرة بالثقة والاحترام على سؤال الانتخابات الأمريكية.