على مدى عقود من التشهير المنهجى المتواصل للانتقاص من تأميم قناة السويس أعلنت الحقائق عن نفسها مجددا باعتراف موثق من الجانب الآخر أنه لم يكن واردا على أى نحو ولا بأى قدر تسليم القناة لمصر عام (1968) بعد انتهاء عقد الامتياز عليها.
لم يكن ذلك غائبا عن «جمال عبدالناصر»، ولا كانت النوايا خافية.
قبل التأميم كشفت صحيفة هندية النوايا البريطانية، اطلع «عبدالناصر» عليها عبر الأستاذ «فتحى رضوان»، أحد أبرز رموز العمل الوطنى فى مصر قبل ثورة يوليو، الذى تولى وزارة الإرشاد القومى (الإعلام) بعدها.
فى فيلم «ناصر 56» سجل السيناريست الكبير الراحل «محفوظ عبدالرحمن» تلك الواقعة الموحية بما سوف يحدث تاليا من عدوان على مصر إذا ما أقدمت على تأميم قناة السويس.
حسب ما هو مؤكد بالأوراق والمستندات والشهادات أخذ قرار التأميم وقته فى الدراسة وجمع المعلومات، والتحضير لإدارتها بعد تأميمها.
أعادت مصر اكتشاف نفسها فى أزمة السويس.
رغم الادعاءات التاريخ هو التاريخ فى النهاية.
قيل وتردد على نطاق واسع أن قناة السويس كانت ستعود لمصر بعد اثنتى عشر عاما دون تأميم، أو صدام، أو حرب، وأنه لم يكن من الحكمة استفزاز القوى الكبرى إلى حافة الحرب.
كان ذلك وهما سياسيا كاملا أقرب إلى الهراء قصد به الطعن فى تأميم قناة السويس أعظم إنجازات الوطنية المصرية بالعصور الحديثة.
وفق الوثائق، التى نشرتها الـ«بى. بى. سى»، بحث خبراء بريطانيون البدائل الممكنة حتى لا تتسلم مصر قناة السويس.
الأول، إضافة نص يتعلق بقناة السويس وشركتها فى أية تسوية بين مصر وبريطانيا أثناء مفاوضات الجلاء.
كان مستحيلا أن يتقبل القادة الجدد فى مصر مثل هذا الاقتراح.
بحسب تصريح لـ«عبدالناصر» فى (17) نوفمبر (1954)، سجلت صدمته الوثائق البريطانية نفسها: «إننا نريد تجنب أخطاء الماضى، ففى الماضى كانت مصر تنتمى للقناة، لكنه من الآن فصاعدا سوف تنتمى القناة لمصر».
الثانى، إنشاء تحالف عسكرى فى الشرق الأوسط لحماية القناة والشركة العالمية التى تتحكم فيها القوى الغربية بالكامل.
لم يكن ذلك ممكنا بالسهولة التى فكر بها الخبراء البريطانيون، فالعالم قد تغير بعد الحرب العالمية الثانية ومعادلات القوى اختلفت.
بعد فشل العدوان على مصر والهزيمة الاستراتيجية التى لحقت بالإمبراطوريتين السابقتين البريطانية والفرنسية كان مثيرا أن تعاود الولايات المتحدة، التى آلت إليها قيادة التحالف الغربى بعد الحرب العالمية الثانية، طرح الفكرة نفسها على نطاق أوسع تحت اسم «حلف بغداد» بذريعة ملء الفراغ.
وكان مثيرا بذات القدر أن الرجل الذى خرج منتصرا فى حرب السويس تولى بنفسه قيادة العالم العربى لإسقاط ذلك الحلف.
الثالث، تدخل حلف شمال الأطلسى «الناتو» بصورة أو أخرى لتوفير الحماية اللازمة لتمديد امتياز قناة السويس.
كانت تلك قراءة خاطئة لحقائق ما بعد الحرب العالمية الثانية شاملة بروز الاتحاد السوفيتى كقوة عظمى جديدة تنازع الولايات المتحدة على قيادة العالم.
الرابع، فصل منطقة القناة عن مصر.
هكذا بكل سفور.
كان ذلك استضعافا لمصر المستقلة حديثا واستفزازا لإرثها الوطنى، الذى دعا مواطنيها للقتال فى بورسعيد ضد قوات الغزو.
قيل إن مصر قد هزمت فى حرب السويس.
لم يكن ذلك كلاما جديرا بأى نقاش، فالحروب تقاس بنتائجها السياسية.
وقد خرجت مصر بعد الحرب قوة كبرى فى محيطها وعالمها.
الخامس، وضع القناة تحت سيطرة الأمم المتحدة.
كان تقدير الخبراء أنفسهم أن مثل هذا السيناريو غير قابل للتطبيق «لأنه يمس كرامة المصريين وسمعتهم» و«لصعوبة اقناع دول العالم الأخرى بتأييده».
ثم فكر البريطانيون فى تشكيل تحالف شركات «كونسرتيوم» من القوى البحرية الأساسية المعنية بالقناة، وهى على سبيل الحصر حسب الوثائق: المملكة المتحدة، فرنسا، الولايات المتحدة، هولندا، إيطاليا، النرويج.
وفق اللورد «موريس هانكى»، أحد ممثلى بريطانيا فى شركة قناة السويس وأبرز الداعين لعدم تسليمها لمصر، فـ«إن المصريين يعلمون أنهم غير قادرين فى الوقت الحالى على إدارة قناة السويس وحدهم»، مقترحا أن تحصل مصر على (25%) سنويا من إجمالى حصيلة شركة قناة السويس كعوائد مقابل الملكية!
الفصل بين الملكية والتشغيل هيمن على جميع الأفكار والتصورات والخطط السرية.
كانت الكفاءة العالية التى أبداه المصريون بعد التأميم فى تشغيل الممر الملاحى الأهم فى العالم صفعة مدوية لتلك الادعاءات الاستعمارية.
وصلت المقترحات إلى سيناريو العمل العسكرى المباشر باستخدام السفن الحربية والقوات المحمولة جوا، لو اقضت الضرورة ذلك، إذا ما حاول المصريون تغيير النظام القانونى الأساسى للشركة العالمية لقناة السويس.
التقارير والمعلومات، التى انطوت عليها الوثائق، لا تدع مجالا لأى ادعاء بأن تأميم قناة السويس كان عملا متهورا أفضى إلى الحرب على مصر.
إذا كان هناك من يعتقد أن استقلال القرار الوطنى يُمنح ولا يُنتزع فهو واهم، لكل استقلال تكاليفه وتضحياته ومعاركه.
اكتسبت مصر استقلالها الوطنى الكامل فى حرب السويس بفواتير الدم المبذولة وشجاعة أبنائها الذين هرعوا لحمل السلاح فى مواجهة العدوان الثلاثى، البريطانى ــ الفرنسى ــ الإسرائيلى.
بحسب تقرير استخباراتى أمريكى ــ ربيع (١٩٥٦) ــ كشف عنه الأستاذ «محمد حسنين هيكل» فى كتابه «ملفات السويس»، فإن خطط الانقلاب والغزو وقتل «جمال عبدالناصر» سبقت قرار التأميم.
انطوى ذلك التقرير على دعوة بريطانية صريحة لاستخدام القوة المسلحة، لإسقاط الحكومة المصرية بالمشاركة مع إسرائيل.
لم يكن كلاما فى فضاء الاجتماعات السرية، بقدر ما كان شروعا فى تحديد الأدوار قبل التنفيذ.
قيمة الوثائق البريطانية أنها تعيد التأكيد على ما هو ثابت فى وثائق وشهادات بلا حصر عن أزمة السويس.
نقد تجربة «عبدالناصر» حق مشروع حتى نتعلم من دروس التاريخ غير أن الافتراء قضية أخرى وتكريس الهزيمة فى الوجدان العام جريمة كبرى لا تغتفر.