بقلم - عبد الله السناوي
بأى قياس فهو يوم استثنائى لا مثيل له فى التاريخ.
بقدر استثنائيته جرى الطعن لأسباب سياسية فى حقائقه الماثلة، التى رأيناها رأى العين وحفظت الكاميرات مشاهدها.
كان ذلك صراعا على الذاكرة العامة حتى لا ينسب رفض الهزيمة إلى بطله الأول، الشعب المصرى.
لم تكن التظاهرات المليونية العفوية التى خرجت فى أنحاء البلد ترفض يوم (9) يونيو (1967) تنحى «جمال عبدالناصر» إثر الهزيمة الفادحة شهادة مجردة لعمق تأثير تجربته بقدر ما كانت شهادة مصدقة لإرادة المقاومة والحياة أثبت المصريون جدارتهم بها مرة بعد أخرى عند المنعرجات الحرجة.
فى لحظة السقوط انعقدت الإرادة العامة على تحدى الهزيمة، أن يرفع البلد رأسه من جديد.
المفاجأة أخذت «عبدالناصر» نفسه، الذى كان يتصور أن تُنصب له المشانق فى ميدان التحرير.. لا أن تخرج الملايين تعرض المقاومة وتطالبه بالبقاء.
لا تضاهى تظاهرات (٩) و(١٠) يونيو سوى جنازته بعد ثلاث سنوات.
«غادرت الجريدة إلى الشارع وكان الظلام ينتشر بسرعة والناس تجرى فى كل اتجاه وهم يصيحون ويهتفون. ثم أخذوا يشكلون اتجاها واحدا إلى مصر الجديدة. وهم يرددون فى جنون اسم ناصر. وظهرت بعض الأنوار فى المحلات والمنازل ثم دوت أصوات مدافع فوق رءوسنا فساد الظلام من جديد».
تلك الصورة التقطها «صنع الله إبراهيم» فى روايته (١٩٦٧) من أحداث ومشاعر عاين عمقها بنفسه ـ انفجار بالبكاء وتشنج وانهيار وخروج بعفوية للشوارع.
كان الروائى الشاب فى ذلك الوقت مطاردا سياسيا.
خرج من المعتقل عام (١٩٦٤) بعد أن قضى خلف جدرانه خمس سنوات كاملة.
لم يكن هناك ما يدعوه إلى أن يُضفى على «تمثيلية» مصطنعة طابع الحقيقة المصدقة.
فى شهادة روائية من موقع آخر لعضو فى منظمة الشباب الاشتراكى عن المشاعر العامة التى اجتاحت مصر ليلة التنحى كتب الروائى «إبراهيم عبدالمجيد» «فى الصيف السابع والستين»: «الجميع يجرون صارخين بالهتاف. صاخبين بالدموع.. رجالا.. نساء.. شبابا.. فتيات.. صبية صغارا.. وعرف الشعب القيامة».
«دوت صفارات الإنذار.. من يسمع صفارات الإنذار الآن!! ما معنى الإنذار الآن؟ أن أحدا ممن امتلأ بهم الوادى الحزين لا يشعر إلا بأنه صار عاريا فجأة.. يلتفت حوله فلا يجد شيئا بعد أن صفع على رأسه صفعة شديدة شلت قدرة الروح وأحبطت دم القلب فاستقر فى القاع متخثرا».
شعور مفاجئ بأن كل حلم تبدد، وكل أمل انكسر، وأن الرجل الذى مضوا خلفه يعملون ويقاتلون انقضى عهده، وأن الظلام حل على البلد.
أهمية تلك الشهادة الروائية أن لصاحبها رؤية نقدية حادة لثورة يوليو.
فى يومى (٩) و(١٠) يونيو خيمت صدمة الهزيمة بظلالها الكئيبة على مصر.
كانت الإذاعات تمهد إلى أن هناك نصرا عسكريا يقترب فإذا بالهزيمة تقع.
بدت الصدمة هائلة بقدر الأحلام التى حلقت والثقة التى توافرت.
وبلغت ذروتها فى الأرض الفلسطينية المحتلة ــ كما كتب شاعرها الأكبر «محمود درويش»:
«ابتدأ كل شىء،
وانتهى كل شىء.
وبين البداية والنهاية، خانك الفرح الذى كنت تحذره دائما. كل شىء يتحول من حجارة إلى أفكار، تخرج فلسطين منك بلا وداع. كنت فى المخبأ معلقا على حبل الفارق بين يومين لا يتشابهان. ليسكت الوطن قليلا. لقد وقعت الخصومة بينك وبين الحياة ذاتها».
غير أن هناك ــ بالمقابل ــ من شكك فى أحداث ذلك اليوم كـ«تمثيلية» دبرها «عبدالناصر» للبقاء فى السلطة والإفلات من مسئولية الهزيمة، أو نسبها لتدبير من الاتحاد الاشتراكى.
بعض الذين طرحوا شكوكهم استندوا إلى وقائع حقيقية لدعوات من مسئولين فى الاتحاد الاشتراكى للخروج، أو التحريض عليه، غير أن الفعل التاريخى نفسه كان عفويا ومباشرا لم ينتظر توجيها من أحد، ولا كان فى طاقة أى تنظيم أن يدفع الملايين إلى الشوارع فى لحظة واحدة.
قيل إن الناس لم تكن مطلعة على حجم الهزيمة، وأنها لم تجد غير «عبدالناصر» أمامها غير أنه عندما تبدت الهزيمة أمام الناس وأمام العرب فى كامل حجمها المروع خرجت العاصمة السودانية الخرطوم بكامل أهلها، حتى خلت المنازل من سكانها، لاستقبال القائد المهزوم الذى وصل إليها دون سابق إعلان.
كان ذلك حدثا تاريخيا مشهودا لا مثيل له.
السؤال الأولى بالإجابة عنه: لماذا خرجت الملايين تطالب ببقاء القائد المهزوم؟
إنه قوة المشروع وما حققه من تحولات جوهرية فى بنية المجتمع وما خاضه من معارك أضفت على مصر هيبة القيادة وما أطلقه من أحلام كبرى لم يكن يسيرا التنكر لها.
ثم إنها الوطنية المصرية التى أدركت فى لحظة السقوط أنها مقصودة بذاتها.
بصورة أو أخرى تصدرت الوطنية المصرية مشهد (٩) و(١٠) يونيو قبل أى اعتبار آخر.
أثبتت الأحداث فيما بعد أن الرهان على «عبدالناصر» كان فى محله.
أعاد بناء القوات المسلحة من تحت الصفر، وامتلكت مصر أقوى جيش لها فى التاريخ الحديث، تجاوز حجمه المليون جندى ـ أغلبه من خريجى الجامعات المصرية.
جيش حديث يأخذ بالعلم وفنونه وقواعد الضبط الصارمة تحكمه، والفضل فى ذلك يعود ـ أساسا ـ لقائده العام بعد الهزيمة الفريق أول «محمد فوزى»: تدريبات قاسية، وبروفات جادة فى ميادين القتال أثناء حرب الاستنزاف قبل أن نذهب إلى حرب أكتوبر.
أعطت مصر أقصى ما لديها من إرادة القتال.
هكذا كان ذلك اليوم الاستثنائى التأسيس الحقيقى لإرادة تحرير الأراضى المحتلة، أو الأرضية الشعبية الصلبة التى انطلقت منها حربا الاستنزاف وأكتوبر.
بقوة الإرادة العامة تحدد المجرى الرئيسى لحركة التاريخ، إزالة آثار العدوان وتصحيح الأسباب التى أدت إلى الهزيمة العسكرية.