لم يكن تقويض العملية السياسية فى السودان بأثر مباشر للحرب المأساوية بين طرفى المكون العسكرى خروجا عن سياق الإخفاقات التى لاحقت الثورات والانتفاضات العربية.
لماذا.. وكيف انكسرت فى كل مرة الرهانات الكبرى التى تبدت فى الشوارع الغاضبة؟
الظاهرة برسائلها ورهاناتها وإخفاقاتها تستحق التوقف عندها بالدرس والتعلم.
فى موجتين متتاليتين الفارق بينهما ثمانى سنوات نشأت ثورات وانتفاضات، اختلفت أسبابها ودواعيها وتقاربت أهدافها المعلنة طلبا لبناء دولة مدنية ديمقراطية حديثة.
رغم التضحيات الهائلة التى بذلت تعرضت جميعها للإجهاض.
الموجة الأولى، شملت تونس ومصر واليمن وسوريا وليبيا.
بدا النجاح ممكنا فى الحالتين المصرية والتونسية، غير أنهما أجهضتا فى بدايات الطريق، أو قرب منتصفه.
اختطفت ثمار الثورة فى مصر من جماعة «الإخوان المسلمين»، دخل البلد فى صدامات وصراعات أفضت تداعياتها إلى إجهاض التجربة كلها.
فى تونس استفادت حركة «النهضة»، التى تنتمى بدورها لتيار الإسلام السياسى، من الدرس المصري.
حاولت فى البداية تجنب منزلقاته، غير أنها عندما آلت إليها قيادة البرلمان مالت إلى الاستئثار بالسلطة وتغولت على صلاحيات رئيس الجمهورية فى إدارة الشأن الخارجى باسم «الدبلوماسية البرلمانية»، وكان الفشل ذريعا فى إدارة الاقتصاد.
كان ذلك داعيا إلى تقبل شعبى واسع لإطاحتها رغم ما أثير عن عدم دستورية الإجراءات.
بالتداعيات والأخطاء الفادحة من الطرف الآخر أجهض ما أطلق عليه «الاستثناء التونسى»، وهو تعبير قصد به أنها التجربة الوحيدة الناجية!
فى التجارب الثلاثة الأخرى تناقضت بضراوة الأحلام التى حلقت مع النتائج التى جثمت.
التجربة السورية تحولت إلى حرب إقليمية ودولية بالوكالة، أدخلت عبر الحدود التركية جماعات عنف وإرهاب، مزق البلد بمناطق نفوذ إقليمية ودولية وجرى عزله عن محيطه العربى لسنوات طويلة.
جاءت التجربة اليمنية على صورة مأساوية أخرى، جرى توظيف شعارات الديمقراطية لمصالح وحسابات أخرى لا علاقة لها بأية حداثة انتهت بحرب أهلية نالت من وحدة البلد وتماسكه.
وكانت التجربة الليبية مثالا صارخا على الدور المدمر الذى لعبه حلف «الناتو» بمساعدة إقليمية فى إسقاط البلد كله باسم تصفية حسابات قديمة مع العقيد «معمر القذافى».
أدخلت ليبيا فى حرب أهلية استهلكت طاقاته وثرواته.
رغم الإحباط الذى ضرب موجة الانتفاضات الأولى حول عام (2011) نشأت بعد ثمانى سنوات موجة ثانية حول عام (2019) شملت السودان والجزائر ولبنان والعراق.
كان ذلك مؤشرا على استحكام أزمات الشرعية فى أغلب النظم العربية وقوة طاقة الغضب التى تستعصى على أى إحباط.
بدت لفترة طويلة نسبيا التجربة السودانية الأكثر تماسكا والأعلى فرصا فى النجاح. أطاحت بحكم «عمر البشير» الذى امتد لثلاثين عاما مستندا على تحالف عسكرى إخوانى.
نشأت نخبة جديدة شابة وحديثة تحت عناوين «قوى الحرية والتغيير» و«تجمع المهنيين» و«لجان المقاومة».
كان أسوأ ما جرى بعد إطاحة «البشير» الإلحاح على تمديد المرحلة الانتقالية لأربع سنوات، لم يكن ذلك ضروريا لكنها أخطاء الحسابات، المثير أن أغلب مهام الانتقال عطلت، لا تشكلت هيئة تشريعية لوضع دستور جديد تجرى على أساسه الانتخابات النيابية والرئاسية وجرت صدامات وارتكبت مذابح لم يتم التحقيق فيها.
أطاح انقلاب عسكرى بالحكومة المدنية التى ترأسها الدكتور «عبدالله حمدوك» ودخل السودان إلى مرحلة سائلة ومنذرة، أحاديث مخاتلة عن نقل السلطة إلى المدنيين دون أن يكون ذلك مصدقا حتى انفجرت حرب مدمرة بين طرفى المكون العسكرى، الجيش الوطنى وقوات الدعم السريع يصعب الحديث بعدها عن استئناف العملية السياسية فى أى مدى منظور.
الصورة تختلف فى الجزائر، التى زامن حراكها ما جرى فى السودان، كأنهما توأم فى التوقيت.
لم تكن هناك مرحلة انتقالية جزائرية، ولا كانت هناك قيادة معروفة لما أطلق عليه «الحراك».
حقق ذلك «الحراك» هدفه المباشر فى منع ترشح الرئيس المريض «عبدالعزيز بوتفليقة» لولاية خامسة، دون أن يحقق اختراقا جوهريا فى بنية نظام الحكم.
فى الحراكين السودانى والجزائرى تبدت قوة الرفض العام لانسداد القنوات السياسية والاجتماعية وتوحش الفساد وإهدار الموارد العامة وتأبيد الرئاسات فى قصور الحكم دون أمل فى تداول السلطة بين رجال وتيارات وبرامج.
الأوجاع الاقتصادية كانت الشرارة التى دعت السودانيين للاحتجاج فى الشوارع غير أن عمق الأزمة أضفى على الاحتجاجات طابعها السياسى وأحالها إلى ثورة متكاملة الأركان تجاوزت إزاحة «عمر البشير»، إلى التطلع لبناء نظام ديمقراطى جديد على قاعدة السلم الأهلى جرى إجهاضها لاحقا.
بدت التجربة الجزائرية أقل دموية وأكثر سلمية، شعاراتها تطورت بعد إجبار «بوتفليقة» على مغادرة منصبه إلى بناء نظام جديد يغلق صفحة الماضى وحكم الجنرالات من خلف الستار ويحيل الفاسدين إلى المحاكمات دون أن تحقق اختراقا كبيرا فى طبيعة الحكم.
ملفات الفساد المتخمة كانت أحد الدوافع الرئيسية للحراكين العراقى واللبنانى.
بدأت الاحتجاجات فى الحراكين بدوافع اقتصادية واجتماعية، غير أن البيئة العامة المسممة بالمحصصات الطائفية دعت إلى تطوير الخطاب الاحتجاجى إلى دعوات تطالب بتفكيك النظام الطائفى وإزاحة النخب الفاسدة التى تتقاسم الثروات فى محصصات ويخضع قرارها لحسابات لا علاقة لها بمصالح اللبنانيين والعراقيين.
بتلخيص ما فإن العنوان الرئيسى المشترك للموجتين الأولى والثانية هو: التطلع إلى بناء دولة مدنية ديمقراطية حديثة.
تصدرت شعارات الغضب فى الموجة الأولى رفض التوريث والحكم العائلى، فيما تصدرت الثانية شعارات ترفض الطائفية والتمييز بين المواطنين على أساس المذهب، أو تهميش الأقليات العرقية، أو الحكم باسم الدين.
علت نداءات دولة المواطنة فوق أى نداء آخر.
كان ذلك أفضل ما أسفر عنه الحراكان العراقى واللبنانى اللذان افتقرا إلى أية قيادة معروفة تفاوض باسمهما لكنهما لم يحدثا اختراقا يعتد به فى معادلات السياسة والمجتمع وظل القلق من المستقبل ماثلا دون إجابة.
لكل تجربة سياقها وتحدياتها، المراجعة بالتفاصيل ضرورية خشية الوقوع فى فخ التعميم، غير أن ما هو مشترك يستدعى السؤال: لماذا لم تعش لنا انتفاضة عربية؟
أهم ما يجب التوقف عنده رغم أى إحباط فى كل تجارب الحراك العربى تصدر الشباب المشهد العام وغلبت وسائل العصر الأساليب التقليدية فى الحشد والتعبئة.
كأى فعل يمتد عميقا فى حركة مجتمعه فإنه لا يمكن مصادرة تداعياته على أى مدى منظور وحضور الأجيال الجديدة فى صدارة المشهد رسالة إلى أن المستقبل هنا مهما طال الوقت.