بقلم - عبد الله السناوي
بلا موعد مسبق حضر «أشرف مروان» سكرتير الرئيس للمعلومات إلى بيت «أنور السادات» بالجيزة، ومعه حقيبتان من حجمين مختلفين معبئتان بأوراق ووثائق جلبها من مكتب «سامى شرف» وزير شئون الرئاسة.
كان ذلك بعد اعتقاله فى أحداث مايو (1971).
تصور «مروان» أن وثائق الرئاسة فى «منشية البكرى» قد تغرى الرئيس الجديد بقراءتها، أو اعتبارها «هدية ثمينة» تستوجب الامتنان والشكر، لكن «السادات» قال ساخطًا: «لن أقرأ البلاوى دى.. اقرأها أنت يا محمد وإن كان فيها حاجة مهمة قل لى».
هكذا خاطب «السادات» «محمد حسنين هيكل»، وقد كان جالسا معه فى حديقة البيت يتحاوران فى أمور اعتيادية.
كانت تلك «أوراق سامى شرف»، التى دأب على ترتيبها وتنظيمها بدقة بالغة يسهل معها استعادتها إذا ما طلب الرئيس «جمال عبدالناصر» مراجعتها، أو الاطلاع عليها.
فى عام (2009) وجدت نفسى طرفا مباشرا فى معركة سياسية وصحفية نشبت بين صحيفة «العربى» واللواء «جمال حماد» أحد الضباط الأحرار، وقد كانت «أوراق سامى شرف» البطل الأول فيها.
سألت الأستاذ «هيكل» إذا كان ممكنًا أن أطل على ما لديه من مراسلات «حماد» إلى «عبدالناصر».
رد على السؤال بمثله: «ومن أدراك أن عندى مثل هذه المراسلات؟!».
قلت: «متأكد وأرجو أن تسمع فى المساء الحلقة العاشرة من شهادته على العصر حتى تحسم قرارك».
سمع بنفسه ما لا يخطر على بال من سباب تجاوز كل عقل ومنطق.
فـ«ثورة يوليو عصابة حكمت» و«جريمة كبرى» فى التاريخ المصرى، ليتها لم تقم، و«جمال عبدالناصر» شخصية «حاقدة» يسيطر عليه «الغل»(!)
بأثر ما رأى وسمع قال الأستاذ «هيكل» فى اليوم التالى: «ما شهدته مريع».
«هذه وثيقة دامغة بخط يده، تصرف فيها كما تشاء».
كان أخطر ما انطوت عليه الوثيقة الخطية اعترافه بــ«كتابة التقارير» عن زملائه وخصومه على حد السواء.
أنهت وثيقة واحدة بخط يده كل كلام بعدها.
فيما كتبت ــ (١٥) فبراير (٢٠٠٩) ــ تحت عنوان «كاتب التقارير»: «إنه قد يباغت ــ قبل غيره ــ بأن ما كتبه لا يزال فى الحفظ والصون رغم مرور ٤٧ عامًا على إيداعه فى مكتب رئيس الجمهورية».
بصياغة «سامى شرف»: «حين دخل صباح يوم ٢٤ سبتمبر عام ١٩٦٢ مكتبى، كان مضطربًا وعوامل القلق بادية عليه، فهو يعتقد أن الرئيس غاضب منه، وأنه اكتشف لتوه ــ قبل يومين فقط ــ أنه تعرض لمؤامرات أدت إلى إحجام الرئيس عن أن يلتقيه، ولو مرة واحدة، لمدة خمس سنوات كاملة».
كانت تلك استنتاجات «سامى شرف» التى رفعها للرئيس مع مذكرة خاصة كتبها «حماد» إليه من (٤) صفحات بخط واضح ومتأنق قمت بنشرها دون حذف حرف واحد.
اطلع «عبدالناصر» على المذكرة، ووضع خطوطًا تحت بعض عباراتها، لكنه رفض أن يقابله.. أو أن يرد عليه.
فى ذلك الصباح البعيد أبلغ «حماد» «سامى شرف» أن فى حوزته معلومات وافية ــ بالأسماء والتفاصيل ــ عن تصرفات فى القوات المسلحة لضباط هم من زملائه ومقربيه!.. وأنه يريد أن يضعها تحت تصرف الرئيس وحده.
لم يلتفت «عبدالناصر» إلى وشاياته ورفض أن يقابله.
فى الحلقة التى تلت نشر مذكرته الخطية تلا قصيدة من نظمه فى مدح الزعيم الراحل قائلًا: «من أنا حتى أهاجم جمال عبدالناصر».
لم يكن صعبًا على اللواء «حماد» توقع أن يكون «هيكل» هو مصدر الوثيقة التى أدانته بخط يده، فأخذ يهاجمه بينما يعتذر لـ«عبدالناصر».
فيما بعد النشر قال لى الأستاذ «هيكل»: «أنت تعرف القصة الحقيقية للطريقة التى حصلت بها على الوثائق المودعة فى مكتب سامى شرف، أخبره حتى يستريح خاطره».
وكان رد «سامى شرف»: «لقد شعرت اليوم أن أوراقى عادت لى، وقد كانت تلك معركة باسمنا جميعًا».
أزاحت تلك الواقعة حساسيات بين الرجلين وركام من الجليد فى العلاقات بينهما.
الحقيقة أن مجموعة «هيكل» عن «حرب الثلاثين سنة»، التى مثلت دفاعا موثقا عن عصر «عبدالناصر»، لعبت الدور الأكبر فى إذابة ذلك الجليد.
فى منتصف ثمانينيات القرن الماضى التقى به نائب رئيس الجمهورية الأسبق «على صبرى» فى مناسبة عزاء.
كلاهما وقف فى معسكر ضد الآخر فى أحداث (١٥) مايو (١٩٧١)، التى أفضت إلى دخوله وزملائه السجون لعشر سنوات كاملة.
اقترب منه، وقد كان رجلًا شديد الاعتداد بنفسه قائلًا: «هوه ده هيكل».
كانت تلك مفاجأة له وشهادة لـ«على صبرى»، الذى أبدى تقديره البالغ لمجموعة «حرب الثلاثين عامًا».
المسار نفسه أخذه «سامى شرف» من الجفوة الشديدة إلى الود البالغ على خلفية الموقف السياسى المشترك مما حدث من تحولات وانقلابات سياسية فى عصر «أنور السادات» وما بعده، فالولاء لـ«عبدالناصر» يجب عنده أى اعتبار آخر.
سجل شهادته على العصر فى كتاب من سبعة أجزاء حمل عنوان «أيام وسنوات مع عبدالناصر».
حاول بقدر ما يستطيع توثيق شهاداته وذاكرته بدت يقظة حتى أيامه الأخيرة.
بأى نظر موضوعى لا يمكن الاستغناء أو تجاهل شهادته على التاريخ، فهو خازن الأسرار الأول.. شاهد وعاين الحوادث الكبرى من موقعه فى مكتب الرئيس.
لم يكن مقتنعا بأهلية «السادات» لتولى موقع الرئيس، لكنه لم يتآمر عليه فى (15) مايو بالنظر إلى أن البلد كانت فى حالة حرب.
«لقد أخطأت وإذا كان زملائى يشاركوننى الخطأ نفسه فإنى اعترف بفداحة خطئى أكثر من أى أحد آخر».
ولم يكن مقتنعا بصلاحية المشير «عبدالحكيم عامر» لقيادة الجيش، لكنه كان نقطة الضعف الإنسانى لـ«عبدالناصر».
«كل المؤامرات خرجت من مكتبه فى دمشق على الوحدة مع سوريا وفى القاهرة إثر هزيمة 1967».
كانت شهادته لافتة على انتحار «عبدالحكيم عامر» حيث نفى فرضية الاغتيال بالسم بأكبر قدر ممكن من التوثيق.
فى تجربته تبدت صفتان رئيسيتان.
الأولى، انضباطه الشديد فى العمل، هو أول من يحضر لرئاسة الجمهورية وآخر من يغادرها عندما يلمح غرفة الرئيس فى المبنى المجاور قد أغلقت أنوارها.
كل شىء فى مؤسسة الرئاسة منظم ودقيق، ولا مجال لأية عشوائية فى صناعة القرار.
والثانية، الوفاء الاستثنائى لـ«جمال عبدالناصر»، عاش بعده أكثر من نصف قرن لم تتغير بوصلته ولا خفتت مشاعره.