بقلم - عبد الله السناوي
فى اختبار الزمن لم تتغير بوصلته ولم تنل منه التحولات والتغيرات.
حافظ طوال الوقت على سماحته الإنسانية والسياسية، التى استدعته قبل هبوب عواصف ثورة يناير لتصدر «الحركة المصرية من أجل التغيير»، التى اشتهرت باسم «كفاية».
عند رحيله لم تكن مصادفة أن كل ما يتحرك بالحيوية فى البلد استشعر افتقادا حقيقيا للرجل والمعنى.
كان يكفى أن يقال إن «جورج إسحاق» رحل حتى تنقبض القلوب.
لم يكن محسوبا على تيار سياسى بعينه، لكنه عكس فى لحظة حاسمة من التاريخ المصرى المعاصر الحاجة إلى التآلف لبناء جسر إلى المستقبل.
ولا كانت حركة «كفاية» أول من انتبهت إلى سيناريو «التوريث» وعارضته بوضوح تام، فقد قادت صحيفة «العربى» وحدها تلك الحملة منذ يونيو (2000) قبل أن تنضم إليها بوقت لاحق صحف أخرى.
فى أكتوبر (2002) تطرق الأستاذ «محمد حسنين هيكل» إلى ملف «التوريث» فى محاضرة ألقاها بالجامعة الأمريكية تحت عنوان: «المستقبل الآن».
كان ذلك تطورا جوهريا أضفى على الحملة الصحفية صدقيتها وتأثيرها الواسع.
الأهمية التاريخية لـ«كفاية» أنها نقلت الاحتجاجات من على صفحات الصحف إلى الشوارع المفتوحة.
فكرة «كفاية» طرأت عام (2004) لكنها أعلنت عن نفسها عمليا فى (2005)، كأنها على موعد مع أمل ما يكاد أن يولد فى مصر.
نشأت على أطلال أحزاب وتيارات فقدت قدرتها على المبادرة والفعل.
تشكلت من جيل الوسط فى الحياة السياسية المصرية وقتها، كأشخاص لا كحزبيين.
لم تكن للحركة الوليدة بنية تنظيمية محكمة بقدر ما كانت نداء عاما يستقطب ويلهم.
اختيار الاسم نفسه كان عبقريا، ربما استلهم من عبارة منسوبة إلى رئيس الوزراء الماليزى «مهاتير محمد» فى حوار أجرته معه «العربى» بالقاهرة: «أربع وعشرون سنة فى الحكم كفاية».
لم يلتزم تاليا بنصيحته، لكنها دوت فى القاهرة وألهمت اسم أهم حركة احتجاجية.
كان «جورج» بسماحته الإنسانية واتساقه السياسى والأخلاقى هو رجل اللحظة التاريخية فى ذلك العام المنذر، حين تقوضت الشرعية دون أن يعرف أحد إلى أين مصر ماضية؟
وكان اختياره منسقا عاما للحركة الجديدة، التى تضم حساسيات متباينة، استطرادا لإرث سياسى طوته الأيام ينتسب إلى ثورة (1919).
هو أول شخصية قبطية تتصدر المجال العام منذ سكرتير عام حزب الوفد القديم «مكرم عبيد».
كانت تلك إشارة بالغة الإيجابية إلى شركاء الوطن.
فى العام المنذر أجريت انتخابات نيابية، تخللتها صفقات مع جماعة «الإخوان المسلمين» حصلت بمقتضاها على (88) مقعدا.
كانت تلك طعنة بالغة الانتهازية لقوى المعارضة المصرية.
فى (25) مايو تصور نظام الحكم ــ ليوم أو اثنين ــ أن تعديل الدستور فى مادته السادسة والسبعين بما يسمح بانتخاب رئيس الجمهورية عن طريق الاقتراع السرى العام المباشر بين أكثر من مرشح كاف وزيادة لتخفيف الضغوط الأمريكية وامتصاص احتقان الداخل.
تصورت قوى المعارضة – ليوم أو يومين ــ أن تعديلا محدودا فى الدستور بإلغاء نظام الاستفتاء ستصحبه بالضرورة تعديلات أخرى تحدث تغييرا جوهريا فى قواعد اللعبة السياسية.
رهانات الحكم أخفقت سريعا، ورهانات المعارضة دخلت فى مأزق.
لا الحكم كان بوارد تبنى فكرة التغيير بأى قدر ولا المعارضة أبدت حماسا لدخول انتخابات يلعب فيها المنافسون المفترضون أدوار الكومبارس فى مسرحية هزلية.
علت أصوات تدعو للتفاوض على شروط اللعبة وطرأت أفكار داخل سلطة الحكم تدعو إلى إعادة النظر فى تشكيل اللجنة العليا المشرفة على الانتخابات بحيث لا يترأسها رئيس مجلس الشعب، وألا تضم فى أعضائها أيا من قيادات الحزب الوطنى.
كان مثيرا للالتفات أن الجرائد المملوكة للدولة حاولت أن توحى للرأى العام أن الإدارة الأمريكية ترحب بخطوة الرئيس وأخذت تلتقط من هنا وهناك أية عبارة لدبلوماسى أمريكى تشيد بالتطور الديمقراطى فى مصر!
كان كل شىء فى مصر ينزلق من فوق منحدر إلى نهايته المحتمة.
الانتخابات استعراض لرجل واحد، النتائج مقررة سلفا، ونسبة الفوز بها، كأن ما حدث فصل فى «لعبة النهاية» ــ حسب عنوان مسرحية شهيرة لرائد «مسرح اللا معقول» «يوجين يونسكو».
«لعبة النهاية» عكست – فى حالة الانتخابات الرئاسية – مأساة حقيقية لنظام حكم استنزف زمانه ورموزه وقواعد إدارته للدولة، وبات عليها أن يرحل.
حاولت «لعبة النهاية» أن توحى بالتغيير دون أن يكون هناك تغيير، وبالانتخابات الرئاسية دون أن يكون ظل من حقيقة تبعث على ثقة فى مستقبل.
كما حاولت أن تعد بالديمقراطية دون أن يكون النظام مستعدا لدفع فواتيرها من شفافية ونزاهة وضمانات قانونية ودستورية ورفع يد الدولة عن صناديق الاقتراع.
قبل إغلاق باب الترشح بدأت رحلة البحث عن مرشح منافس له اسم ووزن حتى يقال إن الرئيس قد كسبه!
عندما أعرب الزعيم التاريخى لحزب التجمع اليسارى «خالد محيى الدين» عن رغبته فى الترشح للانتخابات المرتقبة، كان هناك ارتياح فى رئاسة الجمهورية، فهو أحد قيادات ثورة يوليو، ويرمز للمطالب الديمقراطية، وبخسارته أمام «مبارك» فإنه يمكن لآلة الدعاية الرسمية أن تقول إن «مبارك» كسب معركة انتخابية أمام رجل تاريخ ورفيق سلاح لرئيسين سابقين ــ «جمال عبدالناصر» و«أنور السادات»، غير أن المرشح المفترض اشترط توافر ضمانات حقيقية لمنافسة جدية.
كان ذلك مستحيلا، فـ«لعبة النهاية» تسعى لتمديد حكم، وربما توريث سلطة، وليس من أصول قواعدها احتكام حقيقى لصناديق الاقتراع، أو قبول بمنافسة متكافئة.
كان فريق «مبارك» الانتخابى يتابع المشهد، ويبحث عن بديل بذات المواصفات.
وقد وجد رئيس حزب الوفد الدكتور «نعمان جمعة» أن هناك فرصة ترشح أمامه استنادا إلى مواريث تاريخ لحزب عريق، غير أن قطاعات عريضة من النخب السياسية والثقافية صدمت فى هذا القرار المفاجئ بالساعات الأخيرة قبل إغلاق أبواب الترشح.
صدمت إلى حد تصور أن قرار الوفد بمثابة طعنة للمعارضة قد تنتقص من قدراتها على مواجهة استحقاقات مرحلة عاصفة تلوح مقدمتها فى الأفق.
دخل حزب الوفد الانتخابات الرئاسية بتقديرات سياسية أثبتت هزليتها وأدخلته فى دوامة صراعات أحالته إلى شبح من الماضى لا صلة له بإرث الحزب العريق.
فى مثل هذه الأجواء بدت «كفاية» عنوانا لطلب التغيير كاملا، ديمقراطية حقيقية، وتبادل للسلطة وفق قواعد دستورية لا تمس.. وبدا «جورج إسحاق» رمزا وطنيا عاما للحق فى التظاهر والاحتجاج وطلب التغيير بالوسائل السلمية.