بقلم - عبد الله السناوي
مرة بعد أخرى يطرح سؤال الهوية نفسه على الرأى العام فى مصر بصيغ عديدة وأزمان مختلفة.
فى مساجلات فيلم «الملكة كليوباترا»، التى تنتوى شبكة «نتفليكس» بثه بعد أيام، اصطنع تناقضا بين مصر بإرثها الحضارى والقارة الإفريقية بوحدة المصير التى تجمعنا بها.
ادعى ذلك الفيلم، الذى قيل إنه «وثائقى»، أن الملكة المصرية القديمة «كليوباترا» بشرتها سوداء وأصولها تعود إلى غرب إفريقيا.
كان ذلك تزييفا متعمدا للحقيقة التاريخية بدواع أيديولوجية تروج لها حركة «الأفروسنتريزم»، «المركزية الإفريقية»، وهى حركة أمريكية تقول إنها تحاول تصحيح التاريخ من التشوهات الاستعمارية فيما هى مستغرقة فى تشويه الحقائق!
هذه الحركة هى الوجه الآخر لـ«المركزية الأوروبية» التى جعلت من القارة العجوز مركزا وحيدا للحضارة الإنسانية وبقية العالم مجموعة هوامش.
الحركتان عنصريتان.. الأولى، بنفى أى إسهام حضارى للقارات الأخرى.. والثانية، بالتزوير الفاضح وإلغاء التاريخ باسم تصحيحه.
هذه هى الحقيقة التى تقتضى التنبه لأفخاخها.
لعلنا نذكر أن أفضل ما ينسب لحركات التحرير الوطنى، التى عمت إفريقيا مطلع ستينيات القرن الماضى، أنها تجاوزت أى تقسيمات سياسية حاولت أن تعزل العالم العربى عن عمقه الإفريقى.
بصياغة الأستاذ «محمد فائق»، الذى ربطته صداقات عميقة فى تلك السنوات مع قادة التحرير الوطنى الكبار: «عندما كشفت مصر عن وجهها الإفريقى الصحيح لأول مرة فى تاريخها الحديث بعيدا عن فكرة الإمبراطورية التى ظلت تملأ عقول زعمائنا الوطنيين حقبا طويلة من الزمن، وأعلن عبدالناصر انتماء مصر للحركة الإفريقية وتحملها عبء حركة التحرر الإفريقية، وأصبح هذا الانتماء جزءا لا يتجزأ من الشخصية المصرية، كان قد أضاف بذلك حضارة مصر العربية لتصبح رصيدا لإفريقيا كلها بجانب حضارتها الزنجية، وهو شىء كانت إفريقيا فى مسيس الحاجة إليه».
بنظرة منفتحة وتحررية لم تكن هناك مشكلة فى مصر من أن تستقى القارة من إرثنا الحضارى «وهى مازالت فى مرحلة تتحسس فيها جذورها ما تدفع به حركتها أمام العالم وفى مواجهة قوى الاستعمار الشرسة».
تلك نظرة مناقضة لما تتبناه «الأفروسنتريزم» من أطروحات وصل بعضها بالتعصب العنصرى إلى حدود غير متخيلة تلغى التاريخ وتدلس عليه.
بحكم الحقائق الثابتة فإن «كليوباترا» من أصول مقدونية يونانية، بشرتها بيضاء وملامحها هيلنستية وهى آخر ملوك أسرة «بطليموس» التى حكمت مصر بعد «الإسكندر الأكبر».
الأخطر نفى أحقية المصريين الحاليين فى الانتساب إلى إرثهم الحضارى القديم، فهم أحفاد العرب الغزاة!
الكلام عن النقاء العرقى عنصرية ونفى صلة المصريين المعاصرين بأجدادهم القدماء خرافة.
تتماهى تلك الادعاءات، التى تنسب الإرث الحضارى المصرى لغير أهله، مع ما أعلنه رئيس الوزراء الإسرائيلى «مناحم بيجين»، وهو فى حضرة أهرامات الجيزة إثر «كامب ديفيد»، من أن أجداده اليهود هم من بنوها!
لم يكن الإرث الحضارى المصرى وحده المستهدف.
اليونانيون والمقدونيون نالهما قسطا كبيرا من التزييف والإنكار، وبدا الاعتداء صريحا وكاملا على إرث «الإسكندر الأكبر».
لماذا البدء بـ«كليوباترا» قبل غيرها فى سلسلة أفلام قيل إنها وثائقية عن ملكات إفريقيا؟
ربما لدورها فى تقرير مصير «الإمبراطورية الرومانية» عند لحظة صدام فى بنية حكمها ورمزيتها الطاغية فى الذاكرة الإنسانية حيث ترتبط سيرتها السياسية والعاطفية بأهم وأشهر رمزين سياسيين لـ«الحضارة الرومانية» «يوليوس قيصر» و«مارك أنطونيو».
فى قصتها التراجيدية تداخلت ثلاث حضارات إنسانية كبرى، الحضارة المصرية القديمة بسلطة الحكم والحضارة الإغريقية بالانتساب الأسرى والحضارة الرومانية حيث أثرت.
كان ذلك ملهما للإبداع الأدبى والفنى أكثر من أية شخصية تاريخية أخرى.
خلدها الشاعر البريطانى الأكبر «وليم شكسبير» فى مسرحية «يوليوس قيصر« وأمير الشعراء العرب «أحمد شوقي« فى مسرحية «مصرع كليوباترا«.
حسب ما هو ثابت من صور وآثار لم تكن جميلة، غير أن خيال الشعراء والرواه أضفى عليها من روحهم ما ليس فيها:
«كليوباترا.. أى حلم من لياليك الحسان».. «هذه فاتنة الدنيا وحسناء الزمان».
هكذا أنشد الشاعر المصرى الكبير «على محمود طه» وغنى موسيقار الأجيال «محمد عبدالوهاب».
كانت ردة الفعل على شبكات التواصل الاجتماعى فى مصر بذات قدر خطورة تزييف التاريخ والاعتداء على إرثنا الحضارى والخيال الإنسانى الحديث.
هذه شهادة لقوة الرأى العام استدعت إصدار بيانات رسمية تندد بالتدليس المنهجى على التاريخ.
أمام ردة الفعل اضطرت «نتفليكس» أن تتراجع إلى الخلف قليلا، فمصداقيتها على المحك.
أعادت توصيف الفيلم المثير للجدل من «وثائقى» إلى «درامى» لتجنب ضبطها بجريمة لا يمكن إنكارها.
فى ثنايا مساجلات أزمة فيلم «الملكة كليوباترا» تكشفت أوضاع مقلقة وخطرة فى مسألة الهوية.
أفلتت عبارات انطوى بعضها على شبهة تعال لا مبرر لها ولا منطق فيها، فمصر دولة إفريقية، ونحن أفارقة، وبعضها الآخر نزعت إلى نفى عروبة مصر نفسها.
كان ذلك تعبيرا عن أزمة حقيقية تستوجب التوقف عندها بالنقاش والتأمل حتى لا تداهمنا بأخطارها وتضرب البلد فى صميم مستقبله، فمصر أكبر دولة عربية ولا مستقبل لها خارج عالمها العربى.
«من نحن بالضبط؟.. عرب.. فراعنة.. متوسطيون.. أم بزرميط؟!»
هكذا طرح السيناريست الراحل «أسامة أنور عكاشة» سؤال الهوية وهواجسه فى ختام مسلسله «أرابيسك».
بتوقيت مقارب كتب الشاعر الكبير «عبدالرحمن الأبنودى» قصيدة عنوانها صادم: «الاستعمار العربى» إثر اقتحام القوات العراقية الكويت مطلع تسعينيات القرن الماضى.
المثير ــ هنا ــ أن كليهما تبنى أفكارا عروبية خلال سنوات «جمال عبدالناصر» وفى مواجهة سياسات «أنور السادات».
إنه غضب طارئ فى سياق مرتبك وصادم.
لم يكن الأمر على هذا النحو فى سياقات أخرى.
فى سبعينيات القرن الماضى بعد رحيل «عبدالناصر» نشأ فى مصر حوار صاخب حول هويتها، قاده أدباء كبار ومفكرون بارزون مثل «توفيق الحكيم» و«حسين فوزى».
كان ذلك تأسيسا بخاتم السلطة وتحريضها للتحلل من الإرث الناصرى وفك الارتباط بالقضية الفلسطينية تحت شعار «تحييد مصر».
بقوة رد الفعل تصدت قوى وتيارات عديدة للدفاع عن عروبة مصر، تصدرها الناقد الأدبى واسع التأثير «رجاء النقاش».
فى المساجلات جميعها، قبل ثورة يوليو وبعدها، أكدت الحقائق نفسها.
مصر هويتها عربية ولا سبيل إلى إنكارها، تعتز بإرثها الحضارى القديم ولا تقبل الاعتداء عليه بالسطو أو الادعاء.
ثم أنها جزء من إفريقيا وقضاياها، وأى كلام آخر فيه تفريط بأبسط مقتضيات الأمن القومى، تطل على أوروبا عبر المتوسط وتتفاعل معها، لكنها ليست أوروبية.