بقلم - عبد الله السناوي
فى حملة تجديد ولايته الرئاسية دعا «رجب طيب أردوغان» أن يكون القرن الحالى قرنا «تركيا» فى الشرق الأوسط.
لم يكن ذلك شعارا جديدا، فقد طرحه هو نفسه عند مطلع القرن وتردد صداه فى جنبات الحياة السياسية والأكاديمية قبل أن تتآكل رهاناته وحساباته.
إثر احتلال العراق عام (2003) تقدمت تركيا لملء الفراغ فى مشرق العالم العربى، فالتاريخ لا يعرف الفراغ.
بنفس الوقت تقدمت إيران بوسائل أخرى لملء ذلك الفراغ.
فى السنوات الأولى من تجربة «أردوغان» بدت إسطنبول مدينة عصرية منفتحة على عالمها لا تتنكر لتاريخها وتتحدث عن المزاوجة بين إرث العلمانية والثقافة الإسلامية، ولديها آمال واسعة فى بناء قوة اقتصادية كبيرة وتحسين مستويات شعبها.
تزاوجت الأوضاع الداخلية الملائمة والأحوال الإقليمية المتغيرة فى بناء قوة دفع لدور تركى جديد، غير أن الرهانات على «العثمانية الجديدة» سرعان ما تقوضت ودخلت تركيا فى حزام من المشاكل والأزمات مع دول عربية عديدة ومؤثرة، كأنها انتقلت فجأة من شعار «صفر مشاكل» إلى أحوال «كل المشاكل».
تقف تركيا الآن أمام المرآة، تراجع مواقفها وتنظر فى مستقبلها.
الانتخابات الرئاسية الجارية كاشفة لحقائق الموقف التركى فى إقليم يتغير.
التغيير حادث لا محالة، مع «أردوغان» أو بدونه.
السؤال الحقيقى: بأى قدر.. وفى أى اتجاه؟
قبل الانتخابات مباشرة تبدت استدارة استراتيجية تعمل على توفيق الأوضاع والمصالح وفق الحسابات المتغيرة بتخفيف التوتر مع مصر إلى أقصى حد ممكن ومد خيوط التعاون الاقتصادى مع دول الخليج بقدر ما هو متاح.
بتوقيت متزامن جرت استدارة استراتيجية موازية من اللاعب الإيرانى مالت إلى التهدئة وفتح صفحة جديدة مع مصر والخليج.
أهم ما ينسب للمصالحة السعودية الإيرانية أنها فكت الارتباط بين التفاهمات التى حدثت بالفعل فى جولات تفاوض جرت فى مسقط وبغداد وبين المشروع النووى الإيرانى ومباحثاته المعطلة فى فيينا.
كان لافتا دخول مصر على خط التهدئة والمصالحة مع إيران بعد أكثر من أربعة عقود من القطيعة الدبلوماسية وأن تلعب مسقط وبغداد الدور نفسه فى سيناريو المصالحة المصرية الإيرانية المتوقعة قريبا، كما يقول المسئولون الإيرانيون.
بطبيعة التشابكات والمصالح المتعارضة فى الإقليم قد تأخذ تركيا بعد الانتخابات الرئاسية مباشرة خطوات أكثر راديكالية فى معادلات الإقليم، خفض التوترات مع مصر بأزمتى ليبيا وغاز المتوسط، انفتاح أكبر على سوريا يتجاوز المقاربات الحالية من اتصالات وتفاهمات أمنية ودبلوماسية إلى إجراءات عملية على الأرض تساعد على إنهاء الأزمة، أو تخفيف وطأتها على الأقل.
يشجع على ذلك السيناريو حضور الرئيس السورى «بشار الأسد» القمة العربية فى جدة لأول مرة منذ اثنى عشر عاما.
قد تختلف المقاربات بين «أردوغان» ومنافسه «كمال كليجدار أوغلو» لكن الخيوط العريضة متقاربة بقوة الحقائق والمصالح التركية.
الأول، يركز على ما يطلق عليه ضرورات الأمن القومى فى النظر إلى الأزمة الكردية.. والثانى، سوف يعمل لتحقيق الأهداف نفسها دون خشونة مفرطة.
هناك أزمة كردية فى بنية الدولة أعمق من أن يتم القفز فوقها.
هذه حقيقة عكست نفسها فى الانتخابات حيث صوتت المناطق الكردية لمرشح المعارضة دون أن تزكى مرشحيها لعضوية البرلمان.
فى حال ربح «أردوغان»، كما تميل أرجح التوقعات، فإنه سوف يعمل على تأكيد تحالف الضرورة فى الأزمة السورية الذى يجمع تركيا مع روسيا وإيران.
«كليجدار أوغلو» قد يحدث بعض التغيير دون تعديل جوهرى على المعادلة السابقة، فالمصالح التركية تحكم فى النهاية.
كانت العودة السورية إلى الجامعة العربية خطوة جوهرية فى فك الحصار الدبلوماسى العربى، لكنها غير كافية إذا لم تتوافر مقومات دور عربى فاعل ومؤثر فى الحسابين التركى والإيرانى.
الإعمار قضية ضرورية، انسحاب كامل القوات الأجنبية من فوق الأراضى السورية مسألة سيادة، مصالحة سوريا على نفسها بحل سياسى مدخل لا يمكن تجاهله.
بعد مضى قرن كامل على تأسيس الجمهورية التركية وإنهاء الخلافة العثمانية تطرح الأسئلة الكبرى نفسها مجددا على مستقبل البلد.
تصعب أية عودة إلى خيار «العثمانية الجديدة»، فقد كان الثمن باهظا، كما يصعب أى عودة أخرى إلى علمانية «أتاتورك» التى تنكر على البلد إرثه الإسلامى.
هناك شروخ فى الهوية أعمق مما هو باد على السطح.
وهناك أزمة اقتصادية تلقى بظلالها الكثيفة على المستقبل، تراجع الليرة وارتفاع نسب التضخم وغلاء الأسعار من أبرز ملامحها.
بدت الانتخابات الرئاسية استفتاء على «أردوغان» بعد (22) عاما من إمساكه بمقادير الأمور.
فى الجولة الأولى تصدر النتائج دون أن يحسمها، تفوق حزبه «العدالة والتنمية» دون أن يكتسحها.
أثبتت استطلاعات الرأى العام أنها لم تكن دقيقة أو صحيحة فى توقعها أن يحصد الرئاسة مرشح المعارضة الرئيسى «كليجدار أوغلو».
تجمعت المعارضة فيما أطلق عليه «المائدة السداسية» بهدف شبه وحيد وهو إزاحة «أردوغان»، لكنها لم تصل إليه بعد منتظرة جولة الحسم.
أمام انقسام مجتمعى وشروخ فى الهوية فإن المستقبل التركى يبدو ملتبسا وغامضا، يدعو للتغيير دون أن يكون مؤكدا أنه قادر على تلبية مقوماته.
رغم ذلك كله فإن أفضل ما جرى فى تلك الانتخابات الإقبال الكثيف على التصويت الذى لامس (89%).
نحن أمام تجربة ديمقراطية تساعد باليقين فى إضفاء قدر من الاحترام على أية أدوار تركية محتملة فى المعادلات الإقليمية والدولية.
عند مفترق الطرق التى تنتظر تركيا يدرك العالم الغربى مدى أهميتها الاستراتيجية كعضو فى حلف «الناتو» وثانى قوة عسكرية فيه، لكنه لا يستريح إلى توجهات «أردوغان» والطريقة التى يدير بها سياساته الخارجية، كاقترابه من موسكو واعتراضه على انضمام السويد إلى «الناتو» لاحتضانها جماعات كردية يصنفها بالإرهابية.
الصحافة الغربية تهاجمه بعنف وتدعو الأتراك إلى إسقاطه فى الانتخابات.
وقد وظف «أردوغان» ذلك لصالحه.
روسيا بالمقابل لا تتمنى خسارة حليفها المجرب موقعه الرئاسى.
لم تكن مصادفة أن يتهم «كليجدار أوغلو» الروس بالتدخل فى الانتخابات لصالح «أردوغان».
الصين كالعادة ترقب وتنتظر كيف تجنى الأرباح فى نهاية اللعبة.
جولة الإعادة الرئاسية (28) مايو المقبل حدث إقليمى ودولى على درجة عالية من الأهمية والحساسية، والعالم كله يرقب نتائجها ليستبين حدود التغيير فى قواعد اللعبة بأكثر أقاليم العالم احتشادا بالأزمات.