بقلم - عبد الله السناوي
«إنها ضربة فى الظهر».
كان ذلك توصيفا أطلقه الرئيس الروسى «فلاديمير بوتين» للتمرد العسكرى الذى قادته قوات «فاجنر»، الشركة العسكرية الخاصة، التى نشأت تحت عباءته.
كل شىء مضى مفاجئا وسريعا، لم تتوقع أجهزة الاستخبارات الغربية أن يحدث مثل هذا التمرد، أو أن تهتز صورة الجيش الروسى وسلطة «بوتين» نفسه على هذا النحو الذى رآه العالم قبل أن يتقوض التمرد بمصالحة رعاها الرئيس البيلاروسى «ألكسندر لوكاشينكو».
فى لحظة بدا سيناريو الصدام المسلح بين الجيش و«فاجنر» غير مستبعد على أبواب موسكو، كأنه هدية عسكرية وسياسية لحلف «الناتو» تلحق بروسيا هزيمة استراتيجية لم تتحقق فى ميادين القتال الأوكرانية.
وفى لحظة أخرى سرت تصورات أن كل شىء جرى ترميمه، التمرد أنهى بدون صدام بالسلاح، وقائده غادر إلى بيلاروسيا، و«بوتين» أكد سلطته تحت قباب الكرملين.
الحقيقة أنه يصعب ترميم الشروخ العميقة التى كشفها التمرد المسلح فى أى مدى منظور.
شروخ فى أوضاع الجيش ومستوى أهلية وكفاءة قياداته العليا، وشروخ فى المسئولية السياسية وصناعة القرار بدولة كبرى مثل الاتحاد الروسى.
بأى نظر موضوعى الشرخان مترابطان ويصعب الفصل بينهما، شرخ واحد فى حقيقة الأمر.
أخطر ما انطوى عليه تمرد «فاجنر» التشكيك فى شرعية ما أطلق عليها «العملية العسكرية الخاصة»، هل كانت ضرورية لحفظ الأمن القومى الروسى كما يرى «بوتين»، أم أنها كانت خطأ فى التقدير السياسى والتخطيط العسكرى حرضت عليه مجموعة ضيقة حول الرئيس الروسى على ما قال «يفجينى بريجوجين» مؤسس الميليشيا المسلحة.
إذا لم يتحسن الأداء العسكرى فإن الثقة العامة فى قرار الحرب سوف تتقوض تماما.
بقوة الحقائق طالت الحرب الأوكرانية، استنزفت أطرافها المباشرة وغير المباشرة، وامتدت تأثيراتها الكارثية إلى العالم بأسره دون أفق سياسى لأية تسوية ممكنة.
بحسابات السياسة والسلاح فإن ما يطلق عليه «الهجوم الأوكرانى المضاد» يكتسب خطورته من أن نتائجه قد ترسم الخطوط العريضة فى مصير الحرب.
بالضبط نحن أمام الجولة قبل الأخيرة قبل الذهاب لتسوية شبه محتمة فى نهاية المطاف.
قبل تمرد «فاجنر» كانت صورة الموقف العسكرى على النحو التالى:
إذا ما نجحت القوات الأوكرانية فى إحداث اختراقات يعتد بها فى ميادين القتال، فإن ذلك سوف يكون داعيا لمزيد من التسليح والتدريب وضخ الأموال الغربية فى الشرايين الأوكرانية على أمل إلحاق هزيمة استراتيجية بموسكو والحفاظ على مقومات النظام الدولى الحالى، الذى تنفرد بقيادته الولايات المتحدة منذ سقوط جدار برلين وانهيار الاتحاد السوفييتى السابق مطلع تسعينيات القرن الماضى.
لم يكن هناك ما ينبئ بتغييرات ميدانية يعتد بها فى معادلات القوة على الأرض، وكانت تلك معضلة ماثلة أمام صناع القرار فى حلف «الناتو».
أما إذا أخفق الهجوم المضاد فى تحقيق أهدافه المعلنة، أو توقفت اختراقاته عند حدود جزئية، كما هو حادث الآن، فإن ذلك سوف يكون داعيا لطرح سؤال الجدوى على الاقتصادات الغربية المنهكة وتبدأ الضغوطات المضادة من داخل القارة الأوروبية، والولايات المتحدة نفسها، لإنهاء الحرب والبحث فى وسائل أخرى غير الاستغراق فى المستنقع الأوكرانى.
فى أوضاع الاستنزاف المتبادل لا يستبعد الطرفان المتصارعان، روسيا وحلف «الناتو»، سيناريو التسوية السياسية، غير أن كليهما غير مستعد أن يسلم بهزيمة مبكرة، أو أن يقبل باشتراطات الطرف الآخر.
إنه الصراع على مستقبل النفوذ والقوة فى عالم يتغير.
الحرب غير محتملة، هذا صحيح، لكن التسليم بالهزيمة كارثة استراتيجية كاملة.
السيناريو الأرجح أن تمتد الحرب إلى جولة أخيرة بعد انقضاء الجولة الحالية قبل الحديث جديا فى فرص وسيناريوهات التوصل إلى تسوية سياسية وفق موازين القوى على الأرض.
يستلفت النظر فى الجولة قبل الأخيرة دخول الرئاستين الأمريكية والروسية على خط حروب الدعايات قبل أن تستولى «فاجنر» على المشهد الإعلامى العالمى كله.
«جو بايدن» كاد يزاحم وزير خارجيته «انتونى بلينكن» فى التعليق على مجريات الحوادث بالحرب الأوكرانية وما حولها من صراعات وصدامات سياسية واقتصادية.
ربما أراد أن يقول: «أنا قادر تماما على صنع القرار وتحمل مسئولية الدفاع عن المصالح الأمريكية العليا»، غير أنه أمر بألا يصدر عن أى مسئول أو دبلوماسى أمريكى أى تعليق على تمرد «فاجنر» حتى لا تكون مادة يستخدمها «بوتين» لكسب معركة وجوده.
و«فلاديمير بوتين» كاد يزاحم المتحدثين العسكريين الروس فى التعليق على جولة القتال الحالية.
ربما أراد أن يقول إن قبضته محكمة على القرارين العسكرى والسياسى فى الكرملين، وأن الهجوم المضاد سوف يفشل لا محالة، ملوحا بالخيار النووى إذا ما تهددت حدود الدولة الروسية.
بعكس «بايدن» زاد معدل حضوره الإعلامى بعد التمرد العسكرى واصفا الذين قاموا به بـ«الخونة».
دفع «بوتين«» ثمنا باهظا من هيبته الشخصية برهانه على بناء جيش مواز موال له من المرتزقة بعد عام (2014) إثر استعادة شبه جزيرة القرم، وروسيتها ثابتة تاريخيا.
لعبت «فاجنر» دورا مؤثرا خارج روسيا شاملة دولا فى أفريقيا والمنطقة العربية ودورا أكثر أهمية فى حسم الصراع على باخموت المدينة الأوكرانية الاستراتيجية بعدما فشل الجيش فى حسمها.
بعكس قواعد الانضباط العسكرى أطلق مؤسس «فاجنر» اتهامات خطيرة لقيادة الجيش دون أن يتدخل «بوتين»، خشية إغضاب أى طرف، وكانت النتيجة إفلات كل الخيوط من يده، لا قيادة الجيش تحدثت أثناء ساعات الأزمة، كأنها اختفت من الوجود، ولا قيادة «فاجنر» أبدت احتراما لتوجيهاته وتحداه مؤسسها أن روسيا تحتاج رئيسا جديدا.
وصلت قمة المأساة الروسية عند سيطرة ميليشيا من المرتزقة على المنطقة العسكرية الجنوبية فى «روستوف» دون مقاومة.
رغم مشاعر البهجة المعلنة والمكتومة فى الغرب لم يكن هناك تقدم عسكرى أوكرانى كبير يستثمر فى الاضطراب الشديد الذى ضرب القوات الروسية.
التداعيات ما زالت فى أولها.. تطور بعد آخر وجولة بعد أخرى تؤكد الحقائق نفسها فى الحرب الأوكرانية، أنها صدام على المصالح والنفوذ وأحجام القوة فى عالم يتغير، وقد كانت أوكرانيا مسرحا مختارا لاختبارات القوة لا جوهر الصراع نفسه.
بمعنى آخر، يدفع الشعب الأوكرانى الثمن فادحا لحرب نظام دولى استهلك زمنه وقدرته على البقاء.
الحسابات الخاطئة أطالت المعاناة الأوكرانية، لا روسيا لحقت بها هزيمة استراتيجية، ولا الغرب سلم للسلاح الروسى بمطالبه الأمنية.
رغم التصعيد حافظ الطرفان الدوليان بدرجة أو أخرى على قواعد الاشتباك.. «الناتو»، رغم اندفاعه تسليحا وتدريبا وتخطيطا وإمدادا استخباراتيا، يحرص على نفى انخراطه فى الحرب.
روسيا تلمح إلى ذلك الانخراط دون إعادة توصيف للحرب كصدام مع «الناتو»، فلكل توصيف حساباته وتكاليفه.
بمقتضى الأحوال الراهنة تلوح روسيا أن سلامة أراضيها خط أحمر حتى كادت أن تدخل فى احتراب أهلى داخل عاصمتها موسكو.
الورقة النووية حاضرة فى المشهد المتأزم كـ«عنصر ردع»، يلوح به دون استخدامه، لكن قد يفلت الزمام فى سيناريو أو آخر.
بافتراض شبه مستحيل لكنه طرح نفسه: ماذا يحدث إذا ما تمكنت «فاجنر» من السيطرة على المخزون النووى الروسى؟
الغرب أقلقه السؤال.. والقيادة الروسية على لسان نائب رئيس مجلس الأمن القومى «ديمترى ميدفيديف» قالت: «لن نسمح».. دون أن توضح كيف؟
الحقيقة الكبرى فى المشاهد المضطربة أن النظام الدولى القديم تهالك تماما وسقوطه مسألة وقت بغض النظر عن الطريقة التى سوف تنتهى بها الحرب الأوكرانية.