توقيت القاهرة المحلي 12:19:35 آخر تحديث
  مصر اليوم -

هيكل وديجول.. ولغة الخرائط!

  مصر اليوم -

هيكل وديجول ولغة الخرائط

بقلم - عبد الله السناوي

لم يكن الرئيس الفرنسى «شارل ديجول» بخلفيته العسكرية مستعدا أن يستمع لمداخلات دبلوماسية معتادة ومطولة تمهد للحوار وأهدافه.

وكان ضيفه القادم من القاهرة، مقدرا دوره التاريخى فى الحرب العالمية الثانية كأحد أبطالها الكبار، قد هيأ نفسه فى طريقه لـ«قصر الإليزيه» لسيناريو يسجل فيه ــ أولا ــ ما رأى أن الرجل يستحقه بأدواره الاستثنائية فى تحرير بلاده من تحية ينقلها إليه باسم الرئيس المصرى «جمال عبدالناصر».. ثم ينتقل ــ ثانيا ــ إلى العلاقات التاريخية والتقليدية بين فرنسا ومصر ويؤكد على استمرارها.. قبل أن يصل ــ ثالثا ــ إلى رسالته وموضوعها.

«عال يا مسيو هيكل.. قل لى ماذا تريد بالضبط؟!».
«سقطت كل التمهيدات التى هيأت نفسى لها ذات صباح من سبتمبر عام ١٩٦٧».

«التفت إلى أن الرجل التاريخى يجلس خلف مكتبه على فوتيل كبير لكنه ثابت، لا يتحرك يمينا أو يسارا على ما اعتاد زعماء آخرون، وأن المباشرة من مقومات شخصيته وطبائع تجربته».

«دخلت إلى موضوعى وفيه رهان على دور لديجول بعد نكسة يونيو يخفف من وطأة الانحيازات الغربية».

«كان تقدير عبدالناصر أننا نحتاج إلى طرف آخر عبر المتوسط فى أوروبا يتصرف على نحو مستقل ومختلف عن واشنطن».

لم تسعفه تغطيته لمؤتمرين صحفيين أوائل عام (١٩٤٤) فى ذروة الحرب العالمية الثانية تكلم فيهما «ديجول» عن المقاومة الفرنسية ومواقفها فى التعرف على شخصيته.

فى ذلك الوقت كان الزعيم الفرنسى يعمل من مكتب فى حى «جاردن سيتى» ويقيم بشقة تطل على نادى الجزيرة فى حى «الزمالك».

بجملة قاطعة ذات صباح فى قصر الإليزيه انفتحت أمامه مغاليق شخصية أحد عمالقة القرن العشرين، لكن أكثر ما استلفت انتباهه فى ذلك اللقاء عناية «ديجول» بالخرائط، «وهذه من طبائع العمل العسكرى فالمعارك تجرى على مواقع وخطوط الاشتباك تتداخل وتمتد والتخطيط يتصل بالخريطة وتضاريسها والحقائق الإنسانية فوقها».

بعد ذلك فإنه «كرجل دولة يصعب عليه إدارة ملفات الأمن القومى لبلاده ومصالحها الاستراتيجية والاقتصادية ما لم يمتد نظره إلى ما حوله فى محيطه وعالمه على خرائط».

طلب «ديجول» خريطة وضعها أمام ضيفه: «أنظر أمامك يا مسيو هيكل.. هذه مساحة العالم العربى.. وهذه مساحة إسرائيل، الهزيمة التى لحقت بكم مؤقتة بطبيعة الجغرافيا والحقائق السكانية فوقها، الوضع لا ينبغى أن يخيف، ومن ينظر عندكم إلى الخريطة لا بد أن يستشعر ثقة فى مسار المستقبل».

بلغة الخرائط أجاب «ديجول» على رسالة «عبدالناصر»: «اطمئن».. وكان ذلك أكثر مما توقعت القاهرة من باريس فى أحوال ما بعد (٥) يونيو.

«ما الذى جرى للمكان وعبقريته وكيف وصلنا إلى هنا؟»
كان ذلك سؤالا قلقا طرحه «هيكل» فيما بعد على راهب الجغرافيا الدكتور «جمال حمدان».

أجابه: «حركة التاريخ الدائمة قد تكون أحيانا إلى أسفل.. شهدنا انقلابا لأنه كان بين السكان من لم يقدر ولم يرع حرمة وحق المكان».

فى ذلك الصباح الباريسى ترسخ لديه أن «الصحفى بدوره لا يقدر على قراءة المشاهد المتحركة بتفاعلاتها وتعقيداتها ما لم تكن الخريطة ماثلة أمامه».

فى حواراته المطولة مع صديق «ديجول» ووزير ثقافته «أندريه مالرو»، صاحب رواية «الأمل»، تبدت نقطة تنوير جديدة لدوره هو فى تجربة أخرى على الجانب الآخر من المتوسط.

كلاهما ارتبط برجل تاريخى، أحدهما اقترب برؤية المثقف والآخر بموهبة الصحفى.

ذات صباح آخر على مائدة إفطار فى بيته دار حوار مثير فى موضوعه وتفاصيله مع الدكتور «إدوارد سعيد» صاحب «الاستشراق» حول المثقف والسلطة.

كان رأى «سعيد»، وقد نشرته ضمن حوار معه منتصف تسعينيات القرن الماضى: «المثقف يكف أن يكون مثقفا عندما يقترب من السلطة».

سألته: «حتى أندريه مالرو؟!».
أجاب «سعيد» بتحدى المثقف الكبير، الذى يعتقد فى سلامة أطروحته: «نعم».

وكان رأى «هيكل»: «أن التعريف على استقامته فيه تعسف، فماذا يفعل مالرو وصديقه الجنرال الذى أعلن المقاومة بعد هزيمة بلاده واحتلال عاصمتها أصبح رئيسا لفرنسا؟.. هل تقترح أن يقطع علاقته به وأن يعترض على تولى وزارة الثقافة الفرنسية حتى يكون بالتعريف مثقفا؟».

فى نهاية المساجلة بين صديقين أبدى «سعيد» تفهمه أن هناك حالات فى التاريخ تستعصى على التعريف الذى اعتمده تدخل فيها علاقة «محمد حسنين هيكل» بـ«جمال عبدالناصر».

فى التجربة الفرنسية تجلت أمامه حقيقة جديدة هى أن قراءة الخرائط وتفاعلات الحوادث فوقها تتخطى خطوط الجغرافيا الصامتة إلى سؤال الثقافة بين سكانها.

«الطريق إلى فهم السياسة يبدأ بالنظر إلى الخريطة»، هكذا لخص إحدى أدواته الرئيسية التى استخدمها بتوسع فى مجموعات كتبه عن الصراع على الإقليم.

إيماءة «ديجول» للخرائط وقراءتها أكدت ما كان مقتنعا به من تجاربه فى تغطية الحروب، فـ«أنت لا تستطيع كمراسل عسكرى أن تستوعب مسارات الحرب ما لم تكن الخريطة أمامك».

«فى تجربة الحرب ترى أمامك المواقع فى الصحراء موقعا بعد آخر، وكيف تتحرك القوات واحتمالات اشتباكات تلوح فى الأفق أمامك والأحداث كلها تجرى على خرائط».

«الخريطة لا تتحرك.. الأطراف هى التى تتغير».
و«الجغرافيا مجرد وعاء يصب فيه التاريخ».
«كل خطوات التاريخ تقودك إلى الجغرافيا».

«لا يمكنك أن تتحدث عن حلف بغداد، وهو أحد العناوين المعاصرة للصراع فى المنطقة وعليها، دون أن تنظر إلى الجغرافيا وخرائطها».

«فى كل الحروب فإنها مرجعيتك الكبرى لفهم ما يجرى حولك، لا يمكنك أن تقرأ حرب السويس على نحو متكامل دون أن تطل على خرائط قبرص ومالطة كساحتين خلفيتين للحرب».

«فى اعتقادى أن منحنى البحر المتوسط هلال فيه ثلاثة نجوم مالطة وقبرص ومصر، وباستمرار فإن هناك قاعدة بريطانية فى قبرص ومالطة عقدة وسط المتوسط فى الصراع على التحكم فيه».

«لا يمكن أن تفهم ما هو جوهرى بلا خريطة ترشدك وتهديك إلى حقائق ثابتة وتفسح المجال أمامك للانتقال مما هو تكتيكى إلى ما هو استراتيجى».

كانت الحرب ومواقعها مدخله إلى الجغرافيا وخرائطها.

وبدت إيماءة «ديجول» إلهاما جديدا لعناية أكبر بالخرائط أخذت بالوقت تتسع حتى احتلت نسخا نادرة لثلاث خرائط مصرية قديمة حائطا خلف مكتبه وأزاحت لوحات تشكيلية لفنانين كبار عالميين ومصريين.

قرب مئويته تحتاج تجربة «هيكل» العريضة فى الصحافة والسياسة إلى قراءات معمقة جديدة لعلها تساعد فى فهم ظاهرته وتأثيره الممتد رغم غيابه منذ سبع سنوات.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

هيكل وديجول ولغة الخرائط هيكل وديجول ولغة الخرائط



GMT 14:59 2024 الثلاثاء ,03 أيلول / سبتمبر

مشاهد مُستَفِزَّة.. “راكبينكم راكبينكم..”!

GMT 06:36 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

… لأي قائمة يسارية ديمقراطية نصوت ؟!

GMT 06:23 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

ماذا قال يمامة؟

GMT 06:16 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

مشكلة إصلاح التعليم

GMT 07:57 2024 الأحد ,21 تموز / يوليو

رصاصة النجاة

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 10:54 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر
  مصر اليوم - الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر

GMT 07:44 2024 الإثنين ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

البنك المركزي المصري يعلن تراجع معدل التضخم السنوي

GMT 22:26 2018 السبت ,20 كانون الثاني / يناير

مبيعات Xbox One X تتجاوز 80 ألف فى أول أسبوع

GMT 14:26 2016 الجمعة ,16 كانون الأول / ديسمبر

أبطال " السبع بنات " ينتهون من تصوير أدوارهم في المسلسل

GMT 18:22 2017 الخميس ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

الكشف عن "هوندا سبورت فيجن GT" الجديدة بتصميم مثير

GMT 05:34 2016 الثلاثاء ,27 كانون الأول / ديسمبر

إيفانكا ترامب تحتفل بعيد الميلاد في هاواي

GMT 09:27 2024 الخميس ,09 أيار / مايو

أهم صيحات فساتين السهرة المثالية

GMT 10:34 2023 الثلاثاء ,24 كانون الثاني / يناير

الأردن يسلم اليونسكو ملف إدراج أم الجمال إلى قائمة التراث

GMT 04:47 2021 السبت ,02 تشرين الأول / أكتوبر

الفنان محمد فؤاد يطرح فيديو كليب «سلام»
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon