بقلم - عبد الله السناوي
فى لحظة واحدة، موقف واحد، تلخص معنى حياته كلها، أن يكون أو لا يكون.
بعد أكثر من خمسة أعوام فى سجن ملحق مزرعة طرة تلقى عرضا من الرئيس «أنور السادات» نقله إليه اللواء «مصطفى كامل» رئيس جهاز أمن الدولة للإفراج عنه مقابل «ورقة صغيرة» يكتب عليها اعتذارا.
عرض «السادات» تضمن تأمين جانب معيشيا «ستكون فيه مرتاحا ماليا إلى أبعد مما تتصور».
كان ذلك فى اليوم السابق من أول أيام عيد الأضحى عام (1976).
«بدا العرض صادما ووجدته مهينا».
كان تقديره، الذى نقله إلى المسئول الأمنى الكبير: «إننى لم أخطئ فى شىء حتى أعتذر عنه، إذا كتبت ورقة الاعتذار فسوف أفقد نفسى من الآن، أما إذا كتب الله أن أعيش فسوف أخرج من السجن وأجد نفسى».
رغم سمته الهادئ فهو رجل صلب.
امتد سجنه لخمس سنوات أخرى، وبعدما خرج عام (1981) عاد إليه فى اعتقالات سبتمبر من نفس العام، التى استبقت حادث المنصة الدموى، الذى اغتيل فيه «السادات».
شاعت تلك الواقعة فى الجو السياسى العام دون أن يتحدث صاحبها عنها، أو يتطرق إليها فى مداخلاته وحواراته العديدة.
ربما وجد أن الوقت قد حان ليدلى بأقوال أخرى للتاريخ عن تجربته العريضة فى مواقع المسئولية وعوالم النشر والدفاع عن حقوق الإنسان لعلها تساعد على بناء نظرة عامة أكثر اتساعا وموضوعية لما جرى من تحولات وانقلابات سياسية واستراتيجية عاصرها وكان شاهدا عليها، وأحيانا أحد ضحاياها.
يستلفت الانتباه فى مذكرات «محمد فايق»، التى صدرت مؤخرا عن مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت، عنوانها نفسه: «مسيرة تحرر».
للوهلة الأولى قد يوحى ذلك العنوان أن مذكراته سوف تنصب على دوره الجوهرى ممثلا لثورة (23) يوليو فى تحرير القارة الأفريقية مطلع ستينيات القرن الماضى، غير أن مفهوم التحرر بدا أكثر اتساعا ليشمل أدوارا أخرى لم يتسن له من قبل الإشارة إليها.
فى بداية الثورة شارك بالتخطيط والتنفيذ فى العمل الفدائى ضد القواعد العسكرية البريطانية بمنطقة قناة السويس، تحت قيادة «كمال الدين رفعت».
كان ذلك من ضمن أنشطة المخابرات الوليدة، التى ترأسها «زكريا محيى الدين».
سلط أضواء جديدة على تلك الحقبة فى التاريخ المصرى الحديث، التى يراد التجهيل بها، كأن ثورة يوليو محض انقلاب عسكرى.
وسلط أضواء أخرى على المقاومة الشعبية التى نظمتها يوليو لصد العدوان الثلاثى على مصر عام (1956) إثر تأميم قناة السويس.
وقد كان دوره فعالا.. غير أن دوره الأهم هو قيادة التغيير الكبير فى أفريقيا ممثلا لمصر الكبيرة بزعامتها ومواقفها واستعدادها لبذل التضحيات حتى تأخذ قضية التحرر الوطنى مداها.
وردت فى مذكراته خفايا وأسرار جديدة ووقائع شبه مجهولة جمعته بقادة التحرر الوطنى، خاصة «نيلسون مانديلا»، الذى طلب رسميا قبل زيارته للقاهرة عقب إطلاق سراحه من سجنه الطويل أن يرى «محمد فايق»، فقد كان بينهما موعد قبل ثمانية وعشرين عاما قبل اعتقاله.
فيما هو لافت حديثه عن الدور الذى لعبه بجوار «جمال عبدالناصر» فى نجدة نيجيريا من مأزق انفصال إقليم بيافرا، حين طلبت امدادها بطيارين مصريين.
لم يكن ممكنا فى ظروف نكسة يونيو إرسال طيارين مصريين بالخدمة، ولا كان ممكنا بالوقت نفسه أن نترك أفريقيا تنتكس بما حدث فى مصر.
جرى السماح بالتعاقد الفردى بين الحكومة النيجيرية وطيارين مصريين خرجوا من الخدمة العسكرية لأسباب سياسية.
كان ذلك تأكيدا على أن سلامة أفريقيا مفتاح أى سياسة رغم أى صعوبات، كما كتب «فايق»، غير أن بعض التعليقات على هذا الموقف أفلتت عباراتها وأساءت إلى نفسها قبل أن تسىء إلى رجل بحجم «محمد فايق»، الذى ينظر إليه فى أفريقيا كأحد آباء حركة التحرر الوطنى.
وكان لافتا إشارته إلى أن الإمبراطور الإثيوبى «هيلاسيلاسى» لم يشكك فى أية لحظة بأحقية مصر فى حصة مياه النيل.
فى نظرة على السودان قال بالحرف: «خسرت مصر قضية الوحدة مع السودان، وكانت الخسارة صدمة للشعب المصرى، لكنها كسبت فى الوقت نفسه احترام الشعوب الأفريقية، التى تناضل من أجل حق تقرير المصير والاستقلال».
انطوت شهادته عن بدايات عصرى «السادات» و«مبارك» على إشارات ذات قيمة كبيرة فى قراءة التاريخ.
كيف أصبح «السادات» رئيسا؟
وما حقيقية أحداث (15) مايو (1971) التى زج بعدها إلى السجن لعشر سنوات كاملة؟
لم يعهد عنه التطرق إليها، ولا الاقتراب منها، لكنه الآن يروى بعض أسرارها وخفاياها نافيا بصورة قاطعة أن تكون هناك مؤامرة استهدفت «السادات».
كان ذلك محض تلفيق.
بعد عشر سنوات من أحداث مايو التقى الأستاذ «محمد حسنين هيكل» حين جمعهما معتقل واحد فيما وصف بـ«ثورة سبتمبر!».
بادره «هيكل»: «عندما رحل عبدالناصر أخطأنا جميعا»، لم يعاودا النقاش فيما جرى لا فى السجن ولا بعده رغم اتصال المودة بينهما.
عندما بدأ عصر «مبارك» إثر اغتيال سلفه، وجد نفسه أمام صديق قديم على مقعد الرئيس.
فى السنوات الخمس الأولى من حكم «مبارك» اقتربا إلى حدود بعيدة.
قام بأدوار ومهام ساعدت على عودة مصر إلى عالمها العربى بعد قطيعة «كامب ديفيد».
فيما رواه بمذكراته أن الرئيس الجديد اشتكى له من «المؤامرات» التى تحاك ضده من السيدة «جيهان السادات»، لكنه كان يتحدث عن «السادات» باحترام فى بدايات حكمه على الأقل.
نقل عن «مبارك»: «أنا ناصرى يا محمد، لكننى لا أستطيع أن أعلن ذلك».
المشكلة هنا أن أغلب من جلس على مقعد الرئاسة، حتى «السادات» نفسه، يقول مثل هذه العبارة، لكنه يمضى عكس معناها وسياساتها.
مذكرات «محمد فايق» تستحق أن يحتفى بها بقدر ما تضىء بعض جوانب تاريخنا الحديث.