توقيت القاهرة المحلي 05:32:36 آخر تحديث
  مصر اليوم -

هل يمكن بناء الاقتصاد دون حكامة جيدة؟

  مصر اليوم -

هل يمكن بناء الاقتصاد دون حكامة جيدة

بقلم - لحسن حداد

هناك تلازم قوي بين تطور مستوى الحكامة (أو الحوكمة) أي قوة وصلابة رأس المال المؤسساتي من جهة، وتطور الاقتصاد من جهة أخرى. ولكن ذلك لا يعني أنه يجب إصلاح الاقتصاد قبل الحكامة أو العكس. المسألة ليست بهذه البساطة. يقول يوان آنغ، مؤلف كتاب «كيف تجاوزت الصين مصيدة الفقر؟» (2016)، إن استعمال «نقاط قوة» الدول، حتى وإن كانت اقتصاد الريع أو البيروقراطية الإدارية أو سيطرة الأبارتشيك على دواليب الاقتصاد مثلاً، هو مدخل لإعطاء دفعة للنمو الاقتصادي وبناء الأسواق؛ بعد ذلك، حين تتطور الأسواق ستحتاج حتماً لمؤسسات قوية لتدبيرها، والمؤسسات القوية بدورها ستحافظ على الأسواق وتعمل على تطويرها إلى مستويات أعلى.

هذا هو النموذج الصيني، حسب يوان آنغ، في مقاله المنشور في «مدونات البنك الدولي» الذي عنونه «من يأتي أولاً الحكامة الجيدة أم النمو الاقتصادي؟» (نوفمبر/تشرين الثاني 2017). إن الأطروحة الأساس في كتابه حول تجاوز الصين مصيدة الفقر هي أن هاته استعملت «مشاكلها» على المستوى المؤسسي لتطوير أسواقها، قبل أن تمر إلى تدعيم المؤسسات لصيانة الأسواق، لأن الأسواق الصاعدة تحتاج إلى مؤسسات قوية.

هكذا فكوادر الحزب الشيوعي على المستوى المحلي هم مَن استعملوا شبكاتهم لجلب المستثمرين مستخلصين عمولات (أو رشى لصالحهم). استعمال هذا العدد الكبير من الكوادر الذين كانت لهم مصلحة خاصة في جلب الاستثمار (ألا وهي الحصول على العمولات) جعل حجم الاستثمار يتطور بشكل كبير دون الرفع من أجور الإدارة (أي كوادر الحزب الشيوعي).

هذه «حكامة سيئة» حسب الفهم المتعارف عليه للحكامة، ولكن يوان آنغ يقول إن تهافت كوادر الحزب الشيوعي بالآلاف، مستعملين شبكاتهم العائلية والاجتماعية، لجلب الاستثمار وتطوير المدن الساحلية أسهم في خلق سوق ضخمة شكّلت نقطة الانطلاق. بعدها تم المرور إلى أهداف أخرى، تمثّلت في الانتقال من الاستثمار الكمي إلى الاستثمار النوعي.

لهذا فيوان آنغ يقول إنه يجب دائماً أن «تبدأ بما هو في حوزتك وليس بما تريده». استعملت الصين قوة كوادر الحزب الشيوعي وانتشارهم بعشرات الآلاف عبر التراب الصيني وشبكاتهم وبيروقراطيتهم لصالح خلق طفرة كمية ضخمة في الاستثمار. بينما قد تعتبر دول أخرى هذه الوضعية بمثابة عراقيل، عدّها دين كسياو بينغ والزعماء الصينيون من بعده فرصةً للتأسيس لسوق ضخمة كمياً وعددياً. فقط خلال العقدين الأخيرين، بدأت الصين تنهج نهجاً يتوخى النوعية والجودة وتنويع مصادر الاقتصاد عبر الاستثمار في الخدمات والسياحة والتكنولوجيا المتطورة.

من جانب آخر، استعملت دول الخليج العربي مثلاً الثروة البترولية لفترة طويلة مصدراً للريع الاقتصادي وبناء سوق مهمة مبنية على الاستهلاك والتحويلات المباشرة والامتيازات؛ وحين بلغت هذه السوق مستوى متطوراً من التراكم، بدأت دول الخليج في تطوير مؤسسات الحكامة لترقية وتحسين فاعلية التدخل الحكومي. وهذا التطور هو الذي جعلها تستثمر في تنويع مصادر الاقتصاد وتطوير الأسواق على مستوى السياحة والخدمات والتكنولوجيا واقتصاد المعرفة. ومن المنتظر أنه حين تصل هذه الأسواق إلى مرحلة ما ستحتاج إلى مؤسسات أكثر قوة معتمدة على العدالة والرقابة الصارمة وفاعلية التدخل الحكومي والمنافسة الشريفة والشفافية على جميع المستويات وثقافة الحقوق للجميع لمواكبة هذا التطور.

دول عربية أخرى في شمال أفريقيا إما لم تستفد من الطفرة البترولية وسيطرة الجيش على الاقتصاد لبناء أسواق اقتصادية حقيقية (الجزائر مثلاً) وإما استعملت الإدارات البيروقراطية المتجذرة في المجتمع والدولة، وثقافة الريع والزبونية، بشكل ناجح نسبياً (مصر والمغرب والأردن وتونس) لخلق أسواق كبيرة نسبياً وآن الأوان لتقييم المرحلة وضبط متى يمكن لها المرور إلى تطوير رأسمالها المؤسساتي بشكل نوعي لتدبير هذه الأسواق ولخلق الجودة والمردودية في استثماراتها.

من جانب آخر ودون النظر إلى المسألة من وجهة نظر كرونولوجية، فإن اعتماد الدول العربية المقتصر فقط على رأس المال الثابت (الاستثمار) والتكنولوجيا لن يحقق التنمية المنشودة والإقلاع الاقتصادي الكفيل بامتصاص البطالة وخلق الثروة وولوج الكثير منها إلى نادي الدول الصاعدة. قد يحقق رأس المال الثابت تحولاً كمياً في السوق، ولكن التحول النوعي يأتي من رأس المال المؤسساتي وإدماج المرأة في سوق الشغل وتنمية رأس المال البشري. مجتمِعةً قد تمنح هذه العوامل اقتصادات دول مثل المغرب والسعودية ومصر والكويت وعمان وتونس والأردن ثلاث نقاط إضافية على مستوى النمو، وهذه كفيلة بجعلها تخطو خطوات ثابتة نحو الاقتصادات العشرة الأوائل بالنسبة للسعودية والعشرين الأوائل بالنسبة لمصر ونادي الدول الصاعدة بالنسبة للمغرب.

ولكن مقاربة استعمال «الحكامة السيئة من أجل التأسيس لأسواق قد تصل إلى درجات عليا من التراكم تحتم اعتماد حكامة جيدة» هي مقاربة محفوفة بالمخاطر. إعطاء الامتيازات لبناء البنيات التحتية الكبرى وخطوط القطارات في الولايات المتحدة في أواخر القرن التاسع عشر، أعطى دفعة قوية لنمو اقتصادي استثنائي، ولكنه في الوقت نفسه شجَّع تنامي الرأسمالية المتوحشة وأنظمة التروستات والكارتيلات وكذا نمو الجريمة المنظمة و«العشرية الحمقاء» التي أدت إلى انهيار بورصة نيويورك في 1929.

حتى في الصين نفسها، فإن التهافت على الاستثمار خلق سوقاً ضخمة بالفعل، ولكن على حساب استعمال مختل وغير منظم للموارد، ما طرح أسئلة تتعلق بالاستدامة وتدمير المنظومة الإيكولوجية والاستيراد الجشع للمواد الأولية وارتفاع الفاتورة البيئية، وهي أمور لم تستطع الصين تجاوزها بعد. كما أن الهوس بالتصنيع جعل الصين تعتمد بشكل كبير على إنتاج المعامل والتصدير وهو اعتماد يختزل في طياته مخاطر جمة. ولم تستطع سياسة تطوير قطاع الخدمات تنويع الاقتصاد بشكل يقلص من التبعية للصناعة والتصدير.

لهذا فإن هذا النموذج المبني على استعمال «انتهازي» للفرص المتاحة «مباح» مرحلياً، ولكن لا ينجح على المدى البعيد دون عين على المخاطر. هذا ما على الدول العربية القيام به: تطوير الأسواق عبر سياسات الريع والامتيازات، ولكن دون ترك هاته تتحول إلى مظاهر فساد مزمنة من الصعب تجاوزها. لهذا فيجب تنمية المؤسسات بالموازاة مع التطور «البدائي» للأسواق. ما إن تصل الأسواق إلى مرحلة النضج تكون المؤسسات قد اكتسبت من التجربة ما يمكنها من مراقبة المجتمع والاقتصاد مراقبة تتوخى المنافسة الشريفة والشفافية. لهذا: نعم يمكن تنمية الاقتصاد معتمداً على ما لك، ولكن يجب على عينك أن تكون دائماً مستقرة على ما تطمح إليه، على التحول النوعي المنشود.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

هل يمكن بناء الاقتصاد دون حكامة جيدة هل يمكن بناء الاقتصاد دون حكامة جيدة



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

اللون الأسود سيطر على إطلالات ياسمين صبري في عام 2024

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 09:59 2025 الإثنين ,06 كانون الثاني / يناير

النظام الغذائي الغني بالفواكه والخضراوات يحدّ من الاكتئاب
  مصر اليوم - النظام الغذائي الغني بالفواكه والخضراوات يحدّ من الاكتئاب

GMT 09:52 2025 الإثنين ,06 كانون الثاني / يناير

ميتا تطلق أدوات ذكاء اصطناعي مبتكرة على فيسبوك وإنستغرام
  مصر اليوم - ميتا تطلق أدوات ذكاء اصطناعي مبتكرة على فيسبوك وإنستغرام

GMT 10:25 2021 الأربعاء ,05 أيار / مايو

فساتين أنيقة بتصاميم مختلفة لربيع وصيف 2021

GMT 17:19 2021 الأربعاء ,14 إبريل / نيسان

طقس الأربعاء حار نهارًا ولطيف ليلًا في أسوان

GMT 04:30 2021 الثلاثاء ,30 آذار/ مارس

أفضل وجهات سفر لعشاق المغامرات

GMT 11:54 2021 الأحد ,07 آذار/ مارس

طريقة عمل مكرونة بصدور الدجاج

GMT 10:40 2021 الجمعة ,12 شباط / فبراير

محمد شريف يحتفل ببرونزية كأس العالم للأندية

GMT 01:06 2021 الأربعاء ,27 كانون الثاني / يناير

تلميذات يتخلصن من زميلتهن بالسم بسبب تفوقها الدراسي في مصر

GMT 21:22 2021 السبت ,16 كانون الثاني / يناير

مرور 17 عام على انضمام أبو تريكة للقلعة الحمراء

GMT 09:42 2020 الثلاثاء ,01 كانون الأول / ديسمبر

كرات اللحم المشوية

GMT 06:57 2020 الثلاثاء ,03 تشرين الثاني / نوفمبر

جماهير أرسنال تختار محمد النني ثاني أفضل لاعب ضد مان يونايتد

GMT 18:47 2020 الأحد ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

تغيير اسم نادي مصر إلى "زد إف سي" بعد استحواذ ساويرس

GMT 07:26 2020 الأربعاء ,21 تشرين الأول / أكتوبر

سعر الدولار في مصر اليوم الأربعاء 21تشرين أول /أكتوبر 2020

GMT 21:31 2020 الإثنين ,12 تشرين الأول / أكتوبر

لعنة الغيابات تضرب بيراميدز قبل مواجهة الطلائع في الكأس

GMT 07:46 2020 الأحد ,11 تشرين الأول / أكتوبر

أسعار الأسماك في مصر اليوم الأحد 11 تشرين أول /أكتوبر 2020

GMT 21:43 2020 الجمعة ,09 تشرين الأول / أكتوبر

فنانة شابة تنتحر في ظروف غامضة

GMT 21:14 2020 الثلاثاء ,06 تشرين الأول / أكتوبر

مؤشرا البحرين يقفلان التعاملات على ارتفاع
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon