بقلم: الدكتور ناصيف حتي
كيف يبدو المشهد اللبناني عشية العام ٢٠٢٢ الذي هو عام الاستحقاقات في لبنان؟ إنتخاباتٌ نيابية وأُخرى رئاسية، ولكن “الاستحقاق” الأساس يكمن في العمل على وقف الانهيار المُتسارِع.
حروبٌ سياسية في الداخل من خلال تبادُلِ الإتهامات عن مسؤولية ما آلت إليه الاوضاع، والشلل الذي أصاب السلطة التنفيذية. خيرُ ما يُعبّر عن هذا الشلل غيابُ، أو تغييب، دور مجلس الوزراء عن تحمّل مسؤولياته في لحظةٍ حرجة يمرّ فيها البلد وهو بأمس الحاجة إلى هذا الدور المطلوب، وانعقاد هذا المجلس أسيرٌ للحرب السياسية الدائرة. ويؤسّس هذا الوضع “الفيتو” لمنع انعقاد المجلس وربط الانعقاد بتحقيق شروط مُعيَّنة، لسابقة خطيرة في العمل الحكومي مُستَقبَلًا قد يلجأ إليها أيّ طرف يمتلك القوة في لحظةٍ للقيام بذلك.
وللتذكير فإن المطلوب من المجلس أن ينعقدَ ليتّخذ القرارات الضرورية لوقف الإنهيار، وهو أمرٌ يُضفي مصداقية أكثر من مطلوبة على وجود قرارٍ عند أهل السلطة لوقف الانهيار كشرطٍ ضروري، ولكن بالطبع غير كافٍ لإطلاق عجلة الاصلاح المطلوب. إصلاحٌ تزداد تكلفته مع مرور كل يوم على التأخير. كما إن كلّ تأخير، أيًّا كانت الأسباب التي تُقدَّم لتبريره، يضرب مصداقية السلطة الحاكمة أمام الأطراف الخارجية من دولٍ ومنظمات دولية داعمة للبنان.
شللٌ سياسي في الداخل وانتظارُ حلولٍ تأتي من الخارج تُسهّلُ الحلول الداخلية. فالأنظار والرهانات أو التمنيات المُتضارِبة والمُتناقضة تُركّز راهنًا على ما يجري في فيينا (المفاوضات النووية) وإذا كانت ستنتج توافقًا أم هدنة أم تفاهمًا إلى جانب بالطبع “الرسائل” المتبادلة من خلال الاتصالات او اللقاءات على الصعيد الإقليمي، ليبني كلٌّ موقفه على ذلك .
فلبنان يبقى بإرادة الطبقة السياسية الحاكمة أسيرًا ل”لعبة الأمم” الدائرة في المنطقة، أو كما يسميه البعض “حجرًا” مُهمًّا، بسبب تركيبته السياسية والمُجتمعية، في “لعبة الشطرنج” في الشرق الاوسط. الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، كان صريحًا في كلامه خلال زيارته للبنان في الأسبوع الماضي عندما حمّل اللبنانيين المسؤولية بشكلٍ جُزئي، كما حمّل أيضًا المسؤولية لجهاتٍ خارجية. فلبنان مُحاصَر من الداخل ومن الخارج، مما يزيد من تعقيدات الوضع ومن صعوبة التوصّل إلى الحلول المطلوبة. كل ذلك يحصل في ظلّ مؤشّرات تدلُّ على زيادة الفقر المُدقع، وعلى ازدياد هجرة الشباب والكفاءات من البلاد. وللتذكير فان مجموعة الدعم الدولية للبنان دعت في اجتماعها منذ عامين في باريس إلى ضرورة الإسراع في إجراء إصلاحاتٍ اقتصادية حكومية (سياسية). وهذه دعواتٌ تُكرّرها كافة الأطراف الداعمة للبنان. ولكن السلطة السياسية، إذا ما وضعنا جانبًا العناوين والشعارات الفضفاضة للإصلاح وتبادل الإتهامات في هذا المجال، ما زالت بعيدة كل البعد من هذا الأمر، وغارقة في لعبة “تقاسم الجبنة” في نظام المُحاصصات الطائفية، وفي اعتماد سياسات “المراهم”، فيما البلد بحاجة إلى “جراحات” إصلاحية وشاملة، وهو أمرٌ يدركه كل شخص موضوعي يعرف لبنان سواء كان لبنانيًا أو غير لبناني.
وفي إطار الشلل الحكومي الحاصل والمفتوح على احتمالاتٍ عديدة، هناك تساؤلات حول حصول أو عدم حصول انتخابات نيابية، والاستمرار بسلطة تنفيذية مشلولة أو حصول انتخابات وعدم تشكيل حكومة جديدة، وحول الاستحقاق الرئاسي وحصول اجتهادات حول عدم جواز حصول شغور رئاسي خصوصًا مع حكومة مستقيلة، إلى جانب بالطبع دعوات إلى إعادة تفسير اتفاق الطائف أو تطويره … كلّها أمورٌ تُشير إلى احتدام المعركة بالنسبة إلى البعض. معركةٌ تُعبّر عن أكثر من أزمة حكم، إذ يعتبرها هؤلاء إنها تعكس بالفعل أزمة نظامٍ بحاجة إلى تغيير أو تطوير.
ما لا يُقال علنًا بعد يجري الهمس به بازدياد. كل السيناريوهات مطروحة من أزمة نظام يجري حلّها عبر “طائف مُعدّل” كما يُلمّحُ البعض، أو عبر تحديثه كما يُلمّحُ البعض الآخر، أو عبر تفاهم من الخارج. وكانت هذه هي الحال دائمًا مع أزمات لبنان التي تنعكس في”تشجيع” تسوية داخلية، كما حصل في اتفاق الدوحة في العام ٢٠٠٨. لكن وجب التذكير أن الأوضاع الداخلية هذة المرة مُقارنةً بالماضي لم تعد تسمح “بترف” الانتظار وقد وصلنا إلى الإنهيار .
أخيرًا، هل من أمل بالتوصل إلى “هدنة” بين الأطراف اللبنانية لإنقاذ المركب اللبناني من الغرق، كما حذّرنا مرارًا، ولو أن كافة المؤشرات لا تُشجّع على ذلك، حيث بعد هدنة من هذا النوع يعاودون التقاتل على مَن يقود المركب؟ أم ننتظر تفاهمات “الخارج” ليتمّ إنقاذ المركب، ونبقى دائمًا عرضة لأن تتقاذفنا الأمواج في “بحرنا الإقليمي”؟ العام المقبل سيأتينا بالجواب.
الدكتور ناصيف يوسف حتّي هو أكاديمي، ديبلوماسي متقاعد ووزير خارجية لبنان السابق. كان سابقاً المتحدّث الرسمي للجامعة الدول العربيةولاحقاً رئيس بعثتها في فرنسا والفاتيكان وإيطاليا، والمندوب المراقب الدائم للجامعة لدى منظمة اليونسكو.
يصدر هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).