بقلم - محمد أمين
من وقت لآخر أحاول أن أعود لما كتبته فى أيام سابقة، وتأخذنى الأحداث لأرجع بالذاكرة شهورًا وسنوات.. أقلب فى الأفكار وأفتش فى المواضيع، وأجد أنه يمكن أن يجمعها جامع، وأن أضعها فى كتاب.. وعُدت بهذه الذكريات والكتابات إلى أيام بعيدة كنت أسجلها فى «كراستى»، وأخذنى الزمن إلى أوراق الطعمية، وأوراق سور الأزبكية.. كانت الكتابات قوية، وكان بعضها ساذجًا. احتفظت بها لنفسى ولم أعرضها على أحد، حتى أعرف إن كانت ذهبًا أم فالصو!.
وفى «كراستى» أسرار لم أبُح بها أبدًا.. بدأت بحالة من الغزل العفيف.. ثم تحول إلى وطنيات، وتعلقتُ فى هذه الفترة ببطولات عنترة بن شداد، وحالة الحب العذرى لابنة عمه عبلة.. وكنت كلما ذهبت إلى الساقية فى القرية، أتذكر العين والنخيل.. وكنت لا أخشى حكايات الذئب والثعلب، وهما يختبآن فى الذرة.. ورحت أكتب الشعر والقصة، وأدوّن ذلك فى «كراستى»!.
وكنتُ أعرض ما أكتب على بعض الأصدقاء، وكانوا يستحسنون ذلك.. وكنت أقرأ فى صفحات الثقافة والأدب كل ما تقع عليه عيناى.. وقد كانت الصحف تهتم بذلك، وتستكتب الأدباء الكبار.. الآن تعتبر الثقافة رفاهية.. وعرفت الأدباء والشعراء وحضرت الندوات فى صمت.. لا أقول إننى شاعر، ولا أقول إننى كاتب.. دائمًا عندى شعور بأننى لم أكتب أجمل ما عندى بعد!!.
وظلت «كراستى» تلازمنى مع مرور الوقت.. أعود لأقرأ ما فيها وأضحك.. كانت تجارب بسيطة.. وكنت أقيّمها بعين الناقد، وأمزقها.. صحيح ربما أخطأت، لكننى كنت أؤمن بأن الكاتب الذى لا يمزق ما يكتب لن يكتب أفضل ما عنده.. وكان ذلك أول درس فى الصحافة.. ألّا تقدس ما تكتب.. فتشبعت بهذه الفكرة.. وآمنت أكثر بأن الكتابة فى «الصحافة» غير الكتابة فى «الكتب».
كانت «كراستى» تعطينى بعض المشاعر.. أتذكر كل سطر وكل كلمة ثم أبتسم وأمضى.. كانت كما قال نزار فى قصيدة «كراستى الزرقاء»: أُمشِّطُ فوقها شَعْرى.. أنامُ.. أفيقُ عاريةً.. أسيرُ.. أسيرُ حافيةً.. على صفحاتِ أوراقى السماوية.. على كراستى الزرقاء.. أسترخى على كَيْفى.. وأهربُ من أفاعى الجِنْسِ والإرهابِ.. والخوف، وهكذا كان لكل كاتب «كراسة»!.
ومع مُضى السنين لم أشعر أننى فعلت شيئًا.. فلا أكتب ذلك أبدًا.. ولا أنقل هذا الشعور لغيرى.. فقط شعور «هاوٍ» يستمتع بما يكتب.
سُئل الفنان العالمى عمر الشريف عن مشواره، قال إنه لا يشعر بأنه قدم شيئًا.. قال: «ماذا فعلت يعنى؟ كنت بحفظ بعض الكلمات وأقولها أمام الكاميرا.. لا أنا زويل ولا مجدى يعقوب».. ذُهل المذيع وقال: بل أنت عمر الشريف!!.
القاعدة: «اقرأ أكثر تكتب أكثر».. وأحيانًا يتواضع كاتب ولا يتواضع آخر. الكاتب كلما أبحر يرى نفسه بعيدًا، لم يُدرك مراده.. أتحدث عن أن الكاتب «الحقيقى» يكون أكثر رزانة.. أما الكاتب «المحدث» فيرى أنه الكاتب الوحيد والأوحد.. وأنه الأفضل المفضل، وخير من أنجبت البلاد!.