بقلم : محمد أمين
فى مثل هذه الأيام كنا نعود إلى بلادنا نحتفل بالمولد النبوى الشريف، ونحمل الحلوى للأهل، ونأكل البط الذى يتم تزغيطه من بعد عيد الأضحى المبارك لهذه المناسبة، فتكون المائدة عامرة باللحم والفتة وما لذ وطاب، ونتسابق من يأخذ الصدر ومن يأخذ الورك.. وعندما أعود إلى القرية أعود إلى النيل، وأتمشى على الجسر حتى أصل إلى مكان فى سفح الجسر على نهر النيل كنت أصلى فيه أيام الثانوى والمذاكرة!.
أصطحب معى راديو ترانزستور، أسمع عليه أغانى أم كلثوم بمناسبة المولد: «القلب يعشق كل جميل.. واللى صدق فى الحب قليل، وإن دام يدوم يوم والا اتنين.. اللى صدق»!. وفى وصلة أخرى تغنى أم كلثوم الآهات من كلمات بيرم التونسى وألحان الشيخ زكريا أحمد، وتظل تقول آه آه، ونحن نتوجع معها، وكل يغنى على ليلاه!.
يبدو أن شهيتى اتفتحت مع مقال أمس «من أجل عينيك».. والجو مناسب لهذه الآهات، خاصة أن الوقت بين المغرب والعشاء ونسمة خريفية تملأ المكان، ومركب صغير وضع مجدافيه على جانب، والسكون يغمر المكان، وأنا فى ملكوت آخر على صوت أم كلثوم والراديو الترانزستور الهادئ.. لم يوقظنى من هذه الحالة إلا صوت بعض الصبية فوق الجسر يقولون «إجرى يا ولا الجنية»، وراح البعض يقذف فى اتجاهى ببعض الحجارة ويجرى.. وظللت ساكنًا صامتًا حتى لا يأتوا فى اليوم التالى يقلقون راحتى، فيشعرون بالخوف أننى لا أتحرك!.
وهكذا كنا نفعل ذلك فى بعض الصبية، فتنطلق حكايات المساء على جنية البحر عند الجسر، وتنطلق حكايات أخرى على ثعالب الذرة فى الغيطان.. وفى الحقيقة لا توجد جنية ولا ثعالب، وكما نقول لا عفريت إلا بنى آدم!.
وتنتهى الجلسة على النيل فى ظلام الليل قبل العشاء بربع ساعة لنلحق بصلاة العشاء فى الجماعة.. والحمد لله لم تنل منا الحجارة ولم تسل دماؤنا فى تلك الليلة، وإلا كانت الآهات اسما على مسمى!.
أعود إلى البيت مارًا بالمسجد فأسمع صوت خرفشة فى الغاب فى بطن الجسر.. فأقول هو اللى احنا بنعمله فى الناس هيطلع علينا والا إيه؟!.. وأمد الخطى فلا أسمع شيئًا بعدها وأنظر خلفى فلا أجد أحدًا.. إنها الوساوس حتى تكتمل حكايات الجنية والعفاريت وأبو رجل مسلوخة!.
وفجأة تنطفئ الأنوار فى القرية تخفيفًا للأحمال، فنمضى على ضوء القمر وتكتمل الحكاية حين يطلب شيخ المسجد أن أصعد فى الظلام للأذان فوق المسجد، حتى يسمع الناس أذان العشاء، وتمر بجوارى قطة سوداء تزعزع ثقتى فى نفسى ولا تزعزع إيمانى أبدًا!.