بقلم : محمد أمين
تستعد المدارس الآن لامتحانات الثانوية العامة، والثانوية لها ذكريات فى نفوس طلاب العلم.. أذكر أننا كنا ثلاثة أصدقاء فى فصل واحد بمدرسة كفر شكر الثانوية، نجلس فى الديسك الأول.. عبدالناصر عبدالله على اليمين.. وجمال كامل وكاتب السطور فى المنتصف.. كان ناصر وجمال يعرفان بعضهما منذ الإعدادية!.
حدث ذلك فى مسابقات أوائل الطلبة، وكنا نعرف بعضنا فى المسابقات، تعرفت على ناصر فى الابتدائية لأنه يعيش فى قرية قريبة منى.. وكان اسمه يتردد كواحد من أوائل الطلبة.. ظل هكذا حتى الثانوية العامة، وكان من أوائل الطلاب، ودخل كلية طب عين شمس.. ومعه جمال كامل، وفرقت معى على واحد فى المائة، فدخلت إعلام القاهرة!.
اقترب ناصر وجمال من حلمهما وأصبحا استشاريين يعالجان الغلابة من المرضى.. وحقق ناصر حلمه بالكشف على الفقراء بأقل سعر ممكن.. وهكذا كان جمال الذى كان الكشف عنده لا يتجاوز ثلاثين جنيهًا، وربما يردها للفقراء.. ناصر كان ومازال هو همزة الوصل بينى وبين أبناء دفعة الثانوية، فهو يعرفهم جميعًا بالأسماء الثلاثية، وربما الرباعية، أعطاه الله ذاكرة فولاذية، نفعته فى الدراسة وفى تكوين معارفه!.
حين تواصلت مع الدكتور عبدالناصر كانت المكالمة كلها تقريبًا حول جمال كامل التهامى، رحمه الله، وهما بالمناسبة دفعة الدكتور محمود المتينى، رئيس الجامعة الحالى!.
كان طموحنا أن نقدم رسالة للوطن.. ناصر وجمال يقدمان خدمة الطب للفقراء والغلابة، وأنا أدافع عن الفقراء ومحدودى الدخل فى الصحافة.. لم يكن هذا اتفاقًا، ولكنه كان توجهًا عند أمثالنا من الطلاب.. مَن يريد أن يصبح طبيبًا كى يساعد الفقراء والمساكين، ومَن يريد أن يصبح ضابطًا فهو يتمنى ذلك لخدمة الناس ومحاربة اللصوص.. كانت أمنيات بريئة.. مِنّا مَن التزم بها وظل على عهده مع الله بعد أن حقق أمنيته!.
كنت أخشى من منظر الدم، فلم أصبح طبيبًا، وإن كان هناك من أهل بلدتى مَن كان ينادينى بالدكتور، وحين ذهبت إلى الإعلام قلت: كلٌّ ميسَّر لما خُلق له.. نفس الجملة التى يقولها الدكتور عبدالناصر الآن، وهو يحمد الله أن وفقه للطب.. وهو كثيرًا ما يتكلم عن رفيقه جمال ونقائه واحترامه وأن الله رزقه بأولاد أطباء ومهندسين.. كان الخيط الجامع لنا أننا لا نتدخل فى رسم مستقبل الأولاد، وإنما تركناهم يختارون ما يشاءون لمستقبلهم، فاتجهوا بإرادتهم إلى الطب والهندسة، أما أنا فقد اتجه أبنائى للهندسة دون توجيه، فلم يدخل أحدهم الطب أو الإعلام!.
جمال كان متأثرًا بالدكتور إبراهيم بدران، العالِم الطبيب، حيث كانت تذكرة الكشف لا تزيد فى زمانه على عشرة جنيهات.. ومضى جمال كامل على نفس الخط لا يرفع تذكرة الكشف.. بينما زملاؤه كانوا قد طاروا وحلقوا فى السماء.. يقول الدكتور عبدالناصر إن جمال كان أشطر من كثيرين، ولكنه كان راضيًا قنوعًا، قلت: مع أن المرضى يختارون الأغلى كشفًا للأسف!.
القصة ليست بالأغلى كشفًا، وإنما بقيمة صاحبها وعلمه وضميره.. السؤال: يا ترى كم طالبًا يحلم بأن يكون طبيبًا الآن بعد أن تدهور حال المهنة إلى هذا الحد؟