بقلم - محمد أمين
زرت معرض الكتاب، أمس الأول، واصطحبت أبنائى ليكون المعرض بالنسبة لهم طقسًا من الطقوس السنوية، التى يجب الحرص عليها.. وفى الحقيقة مازالت الحكومة حريصة على القوة الناعمة للدولة المصرية، جهزت معرضًا عظيمًا يليق بمصر فعلًا.. وهيأت له وسائل المواصلات من الميادين العامة بخدمة ممتازة، ورأيت فيها الشباب والكبار يحملون الكتب ويقرأون فيها فى المواصلات، وهو مشهد يستحق الإشادة به.. لكننا نفتقد الصوت فى هذه الحركة الثقافية والضجيج والنقاش، ولا مانع من المعارك.. فقد كانت المعارك الأدبية شيئًا مما تعرفه مصر فى عصرها الذهبى!.
فقد كانت المعارك الأدبية المشتعلة بين لفيف من الأدباء مظهرًا من مظاهر التوهج والتجديد والانطلاق فى عالم الفكر والأدب، وهى تعكس الرغبة فى فرض الرؤى الجديدة أو ترسيخ الرؤى الكلاسيكية تحت دعوى المحافظة على الذات ضد خطر الاستلاب، كما تعكس الرغبة فى تكريس الذات واستراتيجية السيطرة باعتبار الكتابة سلطة وباعتبار النص فضاء يحجب ويطمس بقدر ما يصرح ويعلن.
وقد ذكّرنى بالمعارك الأدبية كتاب صغير وجدته للأديب مصطفى صادق الرافعى بعنوان «على السفّود» بتشديد الفاء، وهو يعنى سيخ الشواء، وهو كتاب من القطع الصغير، يشن فيه هجومًا لاذعًا على الكاتب العملاق عباس محمود العقاد، وقد كانت معارك رهيبة تجهز فيها الجيوش وتشحذ فيها الهمم!.
وأذكر أننى قرأته فى باكورة الشباب وكنت معجبًا إلى حد كبير بهذه النوعية من المعارك، حتى إننى تصورت أنه لا صحافة ولا أدب بلا معارك أو اشتباكات، وهكذا تكونت عقيدتى وكنت مولعًا بما يكتبه العقاد فى مواجهة الملك، وكان يستخدم تعبيرات لا أحب أن أتذكرها ولا أشير إليها الآن!.
ولا شك أن ازدهار الصحافة فى النصف الأول من القرن العشرين، وتنوع الصحف بين سياسية ودينية وأدبية، يومية وأسبوعية، نصف شهرية أو شهرية، ووجود مساحة عريضة من القراء والمتابعين، أولئك الذين يشكلون موردًا ماليًّا للجريدة، شجع ذلك كله حُمّى الصراع الفكرى والأدبى، ومحاولة كل طرف فرض وصايته أو تكريس ريادته وسلطته.
وكان من هؤلاء عميد الأدب العربى طه حسين والعقاد والرافعى وسلامة موسى وزكى مبارك، الذى كان يلقب نفسه بالملاكم، ويوقع باسم الدكاترة زكى مبارك!.. وكل كاتب من هؤلاء كانت له عزوة وتلاميذ يدعمونه ويشجعونه ويوزعون ما يكتبه!.
وكان صادق الرافعى يفتتح مقاله بقوله: المغفل الكبير، يقصد عباس العقاد، ويذكره تصريحًا وتلميحًا، وكان العقاد يمزقه ويمزق ملابسه، وغيره كثيرون.. وكانت الصحافة تبيع بأسمائهم، وتمنحهم مساحات كبرى، وكان القراء يتابعون وينتظرون ردود الأفعال، وكانت معارك ثرية وخصبة، أثرت مساحة النقد والفكر والإبداع، وكانت محفزًا لظهور مؤلفات أدبية وفكرية!.
وأخيرًا، لا ننسى معارك العقاد مع أحمد شوقى أمير الشعراء، وحافظ إبراهيم شاعر النيل، وعبدالقادر المازنى، الذين تركوا لنا مدارس شعرية راسخة صمدت فى وجه الزمن، فأين نحن الآن من هذه المعارك الصحفية والأدبية؟.. وأين المناخ الذى يسمح بهذه المعارك؟.