بقلم - مصطفي الفقي
وطنت نفسى على أن أكون موضوعيًا يعطى كل ذى حق حقه ولا يبخس الناس أشياءهم، وقد عملت لأكثر من ثمانى سنوات إلى جوار ولى الأمر في الدولة المصرية كنت خلالها موغلا في الموضوعية، حتى إننى نقلت إلى الحاكم أخطاء من أحبهم وحسنات من لا أميل إليهم، وكان ذلك مثار دهشته أحيانًا، ولقد أمضيت السنوات الخمس الماضية في إدارة مكتبة الإسكندرية، تعاملت خلالها مع الجميع بموضوعية وحيادٍ كاملين وجعلت بابى مفتوحًا للجميع بلا استثناء في إطار الأسرة الواحدة، ولم أسمح إلا بهامشٍ محدود من الاستثناءات المدروسة لاعتبارات إنسانية عاجلة.
بل لقد بدأت عملى في المكتبة بإعطاء العالم الكبير الدكتور إسماعيل سراج الدين قيمته الحقيقية بدءًا من جلسة المحكمة بالإسكندرية مرورًا بكل المناسبات التي تحدثت فيها عنه بكل إكبار وتقدير، ولم أنس لحظة أن إسماعيل سراج الدين هو المدير المؤسس للمكتبة بعد أن تسلمها قبل بدء نشاطها من شخصية محترمة عاشت في الظل رغم دور صاحبها في عملية البناء والتكوين.
وأعنى به الأستاذ الدكتور محسن زهران، لكن الدكتور سراج الدين، باتصالاته الدولية ومكانته الكبيرة، هو الذي حدد الملامح الرئيسية لهذه المؤسسة العالمية، وأتذكر في سعادة أننى الذي قدمته للسيدة المصرية الأولى في النصف الثانى من تسعينيات القرن الماضى عندما كان زائرًا للنمسا، وكنت أنا سفير مصر في فيينا فدعوته على غذاء أقمته على شرف الضيفة الكبيرة التي أعجبت بحديثه وطريقة تفكيره، ثم عرضت عليه، فيما بعد، أن يتولى إدارة مكتبة الإسكندرية، فكان اختيارًا موفقًا لذلك القادم من منصب دولى رفيع كنائب لمدير البنك الدولى، أما التهنئة فإننى أزفها إلى المدير الجديد، الأستاذ الدكتور أحمد زايد، ابن محافظة المنيا الذي صنع نفسه بنفسه قادمًا من القرية إلى العاصمة الكبيرة.
.. واستطاع بجهده أن يحصل على أعلى الدرجات العلمية ويصبح مرجعًا كبيرًا لعلم الاجتماع المعاصر في مصر، إلى جانب ما يتحلى به من دماثة الخلق وحسن المعشر كى يواصل النهوض بهذه المؤسسة العالمية موازنًا بين الصفة العالمية والشخصية المصرية وهى تطل على ساحل البحر المتوسط بحيرة الحضارات الكبرى وملتقى الثقافات المصرية القديمة والهيلينية والرومانية.
وأتذكر الآن أننى الذي تلقيت الاتصالات الهاتفية من سكرتيرى الملوك والرؤساء العرب بأرقام تبرعات دولهم عندما كنّا في مدينة أسوان عام 1990 ويومها طلب الرئيس صدام حسين أن يزيد على أعلى تبرع وصلنا إليه بمليونى دولار إضافى وقد كان، وكنت أضع كل ذلك نصب عينى في السنوات الخمس الماضية وأتذكر لقائى مع رئيس جمهورية اليونان في مكتبه بناءً على طلبه حيث تحدث يومها عن حوار الحضارات وأهمية أن تكون المكتبة جسرًا له، وهو أمر قائم بالفعل.
وأتذكر لقائى الآخر مع رئيس جمهورية البرتغال في مكتبه أيضًا بناء على دعوته، حيث امتد بنا الحديث عن الكشوف الجغرافية ودور البرتغال فيها ونحن نطل من النافذة على العاصمة لشبونة حيث عبّر لى يومها عن أمنيته بزيارة مكتبة الإسكندرية في أقرب فرصة، ولا أنسى ما حييت يوم أن ألقيت الكلمة الرئيسية في افتتاح المعبداليهودى الكبير بالإسكندرية في نهاية عام 2019، وذلك بتوجيهٍ من السيد رئيس الجمهورية نقله إلى وزير السياحة والآثار، الأستاذ الدكتور خالد العنانى، ويومها احتشد أمامى أكثر من ثمانين مراسلا أجنبيًا من محطات الإذاعة والتليفزيون العالمية في تجسيد واضح لأهمية اليهود في الإعلام المعاصر.
ولا أنسى أيضًا يوم أن وقعت مع السيدة هدايت هيكل، قرينة الكاتب الراحل الكبير، عقد إهداء أسرتها لمكتبة الأستاذ هيكل من كتب ووثائق إلى مكتبة الإسكندرية، كما لا أنسى انبهار ولى عهد بريطانيا، الأمير تشارلز، وقرينته في زيارتهم التاريخية للمكتبة حتى إنه دعانى لإلقاء محاضرة أمام جمعيته الخيرية في العاصمة البريطانية، خصوصًا أننى كنت قد التقيته يوم افتتاح الجامعة البريطانية في مصر، وكنت أول رئيسٍ لها عام 2006، وأتذكر أيضًا أننى تسلمت قبل انتهاء مهمتى بالمكتبة بيومين فقط جائزة الشيخ زايد لعام 2022 المهداة لمكتبة الإسكندرية مع التحويل النقدى لقيمتها الكبيرة، وقد حرصت دائمًا على الامتداد الأفقى والرأسى معًا لهذا الصرح الكبير.
فظهرت له امتدادات جديدة بقصرٍ كبير في حى حلوان بالقاهرة، مع إهداءٍ كريم بأربع شقق كبيرة تطل على البحر في الإسكندرية هي متحف الفنان الكبير الدكتور محمد شاكر التي نقل ملكيتها كاملة إلى المكتبة تحية منه لها ولإدارتها، إلى جانب توقيع عشرات الاتفاقيات الدولية وتعزيز الارتباطات الثقافية مع المؤسسات الكبرى مثل هيئة اليونيسكو التي سعدت بلقاء مديرتها على عشاء في القاهرة وهى تتحدث بإكبار شديد عن التراث الثقافى المصرى، كما تواصلنا مع معهد العالم العربى في باريس والمتحف البريطانى في لندن والمركز الدولى للعلوم في إيطاليا وغيرهم في قارات العالم المختلفة.
تحيةً لكل العاملين والعاملات بمكتبة الإسكندرية وترحيبًا صادقًا بالمدير الجديد وسوف تبقى مكتبة الإسكندرية هي صاحبة المقام الرفيع على مر العصور والأزمنة، وشكرًا لكل من ارتبطت معهم بزمالة ناجحة وصداقة قوية وود موصول.