بقلم - مصطفي الفقي
تحيل زيارة الرئيس الأميركي جو بايدن للمنطقة منتصف يوليو (تموز) 2022 إلى مؤشرات توحي بأهمية خاصة لتلك الزيارة من حيث التوقيت والظروف الإقليمية والدولية المصاحبة لها، فالحرب الروسية الأوكرانية دفعت العالم إلى التعامل مع ملفات كنا نتصور أنها قد أغلقت ولو مؤقتاً، وبلغ التصعيد مداه من الجانبين ولعبت الولايات المتحدة الأميركية دوراً في إشعال الموقف واستفزاز رجل الكرملين بمجموعة عقوبات مضت فيها مع دول أوروبا الغربية في محاولة لإحياء حلف "الناتو" ومحاصرة روسيا الاتحادية سياسياً واقتصادياً بل ورياضياً أيضاً، وبدا المشهد مقلقاً في مجمله خصوصاً في ظل إدارة أميركية تفتقر إلى الكاريزما، وضاعت هيبتها بانسحابها المخزي من أفغانستان وتراجع دورها في السياسات الإقليمية في المناطق المختلفة وفي مقدمتها الشرق الأوسط، فضلاً عن أن هذه الإدارة الأميركية لم تتمكن من الحفاظ على وعودها الانتخابية وخضعت للواقع وقدمت المصلحة على المبدأ وهذا أمر طبيعي لا نجادل فيه كثيراً.
لكن الغريب أن تلك الإدارة غير المتهمة بقوة واشنطن ومكانتها تحاول أن تمارس دوراً مختلفاً عما قامت به الإدارات السابقة في العقود الأخيرة خصوصاً إدارة ترمب، ونحن بالمناسبة لا نجادل في مخاطر إيران على المنطقة خصوصاً على عرب الخليج ودول المشرق، ولكننا في الوقت ذاته لا نعتقد بإمكانية تشكيل "ناتو عربي" كما رددت وسائل الإعلام في الأسابيع الأخيرة، فالأمر أكبر من ذلك وأكثر تعقيداً، وأنا أرى في زيارة بايدن الحالية نوعاً من الاشتباك بين العلاقات الإقليمية والدولية على ساحة المنطقة، فإذا كانت القوى المهمة في الشرق الأوسط وغرب آسيا خارج نطاق البلدان العربية هي إيران وتركيا وإسرائيل، فإنه من الطبيعي أن يسعى العرب إلى توحيد الصف والهدف والفكر حتى نخرج من الدائرة المحكمة التي تحيط بعالمنا العربي وقضيته الأولى في فلسطين، فضلاً عن محاولة الأقوياء الحصول على ما يستطيعون من ميزات بغض النظر عن مصالح شعوب المنطقة وآمالها الحقيقية، ولا بد أن نفرد هنا ما أجملناه من خلال بعض المحاور أهمها:
أولاً: عاش العالم فترة الحرب الباردة مع انتهاء الحرب العالمية الثانية، وتصورنا أو توهمنا أن الحرب العسكرية بمعناها الشامل لا يمكن أن توجد على الأرض الأوروبية اكتفاءً بالصراعات بين الأطراف في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، ولكن الذي حدث جاء بمفهوم مختلف، فقد أدرك الجميع أن قلب أوروبا ليس بمنأى عن العودة لا إلى حرب باردة لكن إلى حرب ساخنة، إذ إن محاولة حصار فلاديمير بوتين بسلسلة العقوبات التي شهدناها أخيراً أصبحت توحي بذكريات قديمة لصيحة هتلر الشهيرة التصدير أو الموت، فإغلاق كل الأبواب والمنافذ أمام إدارة الكرملين أمر يدعو إلى القلق ولا يبشر بالخير ويمكن أن يؤدي إلى تصعيد من غير حدود ومواجهات لا تعرف النهاية.
ويكفي أننا نستمع لأول مرة علناً عبارات التلويح بالسلاح النووي وهو أمر لم يرد في أجندة الأحوال السياسية العالمية في السنوات السبعين الأخيرة منذ قنبلتي هيروشيما وناغازاكي، لذلك فإن ما يحدث الآن إنما يعبر عن معضلة كبيرة يمكن أن تواجه المجتمع البشري المعاصر وتستدعي أمامه ذكريات الحرب العالمية الثانية وما صحبها من أهوال وما نتج منها من كوارث، ولا شك أن الإدارة الأميركية الحالية تحاول استثمار المشهد الدولي الراهن لاستعادة جزء من هيبة واشنطن ومغازلة الحلفاء القدامى والأصدقاء التاريخيين بما في ذلك السعودية ومصر والأردن وربما العراق أيضاً، لكننا لا نتصور أن تتغير الأمور بين يوم وليلة وأن يرفع الستار فجأة عن البطل القادم من البيت الأبيض بينما كل الأمور تشير بغير ذلك.
ثانياً: يجب ألا نغفل على الإطلاق ما يجري في إسرائيل وإيران وتركيا، فرؤوس ذلك المثلث غير العربي تحمل تصورات استراتيجية لأدوارها في المنطقة وتحاول الحصول على مكاسب خصماً من حساب الوجود العربي وأهميته سياسياً واقتصادياً، والغريب في الأمر أن المجتمعين في السعودية يحملون أفكاراً متشابهة تجاه المخاطر المحيطة بالشرق الأوسط ودوله وهي مخاطر قادمة من توجهات مختلفة، لكنها تلتقي في النهاية حول استقطاب العرب لدعم المشروع الأميركي الكبير لخلق حائط صد أمام إيران ومخططاتها وتركيا وأهدافها وتطبيع العلاقات بين إسرائيل وجميع جيرانها.
وإذا كنا نعتبر أن مصر والسعودية مستفيدتان من هذه الزيارة لو أحسنتا التعامل معها فإننا نضيف إلى ذلك أن حوار السعودية بين حكام الخليج والرئيس الأميركي في حضور مصر والأردن والعراق هو إعلاء لمنطق التفاهم بين الأطراف خصوصاً في ظل الانتقادات الأميركية بل والغربية عموماً لملف حقوق الإنسان بين دول المنطقة، فلقد جاء الأوان لتطبيق مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية واحترام سيادة الدول ومحاولة فهم خصوصية كل أمة مع دراسة الإطار الثقافي الذي تتحرك فيه مجموعة القيم والتقاليد السائدة في كل مجتمع، فضلاً عن مناخ الحرية المتاح الذي يختلف من دولة إلى دولة بل ومن نظام إلى آخر.
ثالثاً: إن المشهد العربي الراهن يملك درجة لا بأس بها من التماسك بعد المصالحات الخليجية - الخليجية، والقطرية - المصرية، وبذلك فإننا أمام محاولات جادة لخلق مناخ عربي صحي يسمح بالحوار البناء والتفكير الموضوعي، وإذا كانت هناك بعض القضايا المعلقة مثل مسألة الإخوان المسلمين وقضية وجودهم السياسي في بعض دول الخليج فإن ذلك لا يفسد للود قضية، بخاصة أن مصر ذاتها تتجه إلى مرحلة لا يمكن تجاهلها وأعني بها الدعوة إلى الحوار الوطني تمهيداً لإعلان الجمهورية الجديدة التي بدأت ملامحها منذ مليونيات الحشد الشعبي المصري في 30 يونيو (حزيران) والتي كان من نتائجها إسقاط حكم الإخوان وولاية المرشد وانطلاق القاطرة المصرية نحو التنمية الشاملة وتوظيف العنصرين الطبيعي والبشري، وينسحب ذات الأمر على عدد كبير من الدول العربية.
كما أن هناك تحولاً اقتصادياً كبيراً يحاول نقل الدول العربية في الخليج خصوصاً السعودية من مرحلة الاقتصاد الريعي الذي عشنا فيه سنوات طويلة إلى اقتصاد متعدد الجوانب تلعب السياحة دوراً ملحوظاً فيه، بل إن أخطر الأمور هي أن العقل العربي ذاته قد بدأ يتغير سياسياً، وإذا تحدثنا عنه فإننا نأخذ طبيعة العلاقات العربية الإسرائيلية التي دخلت مرحلة جديدة مع الإمارات والبحرين والمغرب والسودان وربما دول أخرى على الطريق، وهو ما يعني أن العقل العربي يخضع لعملية مراجعة كبرى ستحيل المنطقة إلى وضع مختلف لم تكن عليه عبر السنين.
رابعاً: لا بد أن نعترف أن الأسباب المباشرة للزيارة هي نتيجة للحرب الروسية - الأوكرانية وأزمة الطاقة التي سيعانيها كل من كانوا يعتمدون على البترول والغاز الروسي، وإحساس الولايات المتحدة الأميركية بأن ردود الفعل من جانب موسكو قد تدخل في مراحل أعلى من العنف والتهور على نحو لا تجدي معه الأساليب الدبلوماسية، وهنا نكون بحق على حافة حرب شاملة قد لا تخلو من محاولة استخدام السلاح النووي باعتباره جزءاً لا يتجزأ من مخاطر العصر وعلامة بارزة مع الحرب الكيماوية لما يمكن أن نطلق عليه أسلحة التدمير الشامل، وفي ظني أن أوروبا الغربية هي الخاسر الأكبر من كل ما جرى، وهي التي ستعاني في الشتاء المقبل الحد الأقصى من أزمة الطاقة فضلاً عن أن هناك دولاً في مناطق مختلفة من العالم ستتضرر هي الأخرى لا من الطاقة الواردة من روسيا فقط، ولكن أيضاً سيلعب القمح والحبوب الغذائية الأخرى مثل الذرة دوراً في الأوضاع الحياتية والظروف الاقتصادية لدول عديدة كانت تعيش على وارداتها من الحبوب الغذائية التي تصل إليها من دولتي روسيا وأوكرانيا. خلاصة القول، إن زيارة بايدن قد جاءت في توقيت شديد الحساسية بالغ الأهمية في إطار التحولات الإقليمية الحالية والتغيرات الدولية المعاصرة.