بقلم: مصطفي الفقي
إننى ممن يقفون فى إجلال واحترام أمام عامل الزمن وأحب أن أنسب كل حدث إلى توقيته بل وأحسب أن الحدث الواحد تختلف طبيعته وفقًا للزمن الذى يقع فيه، وتلك فلسفة التاريخ التى تربط الواقعة بظروفها وملابساتها وقبل ذلك كله بزمانها وتوقيتها، أتذكر كثيرًا ستينيات القرن الماضى حينما كنت فى بداية الشباب أواجه الحياة بأسلوب مختلف عما نحن عليه الآن فأجد صوت أم كلثوم يصدح فى أذنى فى قيلولة الصيف من إذاعة موجهة من مبنى الحرس الجمهورى فى عصر الرئيس الراحل عبدالناصر، ومازلت أتذكر ألوان الحياة وأشم رائحة الزمن ويغمرنى شعور عميق بالحزن النبيل لفوات الأوان، وتارة أخرى أتذكر سبعينيات القرن الماضى وقد قضيت معظمها فى لندن دبلوماسيًا فى السفارة المصرية ودارسًا بجامعة لندن فى نفس الوقت، وعندما أتذكر ذلك تعترينى قشعريرة من برد المدينة التى كانت تسمى مدينة الضباب فضلاً عن إحساس عميق بالحنين إلى تلك الأيام السعيدة فى حياتى وأنا أداعب طفلتيَّ فى إحدى الحدائق وسط لندن، فلكل زمان رائحة ولكل فترة مذاق خاص، وعامل الزمن عامل حاكم تمامًا بل إننى أتأمل طوائف المصريين من الأصدقاء والزملاء فى أيٍ من مشاهد العزاء حيث أرى كل ألوان الطيف تمر على الأسرة المكلومة صبرًا وجبرًا، وأرى فى تنوعهم ما يدعو إلى احترام فلسفة الزمن، ففى زمنه كانت ترتج المواقع لحضوره وها هو يدخل ذابلاً بعد عمر مديد لا يكاد يعرفه أحد من الأجيال الجديدة أليس ذلك دليلًا على أن عامل الزمن هو الذى يحرك عجلة التاريخ ويفتح الأبواب الجديدة مع كل مرحلة، وعندما أستمع إلى بعض أغانى أعياد الثورة فى تلك الفترة أشعر بالحنين الجارف إلى تلك الأيام رغم أنها كانت تحمل فى طياتها سحبًا سوداء لا نكاد نراها بسبب حسن النوايا والثقة المبالغ فيها بالنفس، حتى كان درس 1967 هو بمثابة صدمة ظللت أترنح بها لسنوات طويلة، ويشدنى ذلك الحديث إلى موضوع قريب من هذا الذى نتحدث عنه أعنى به «بورصة البشر» التى تتفاوت فيها أسعار كل إنسان وفقًا لزمن معين فى حياته، فهذا رجل كانت تهتز له المنابر ويحيط به حملة المباخر ويردد اسمه المنافقون والكذابون وخدم كل عصر فإذا بهم الآن ينفضون من حوله ويتركونه وحيدًا فى الساحة الباردة بعد غروب شمس حياته، ولهذا أشعر بتعاطف معه ولكننى أريد أن أوجه له نصيحة بأن تلك هى طبيعة البشر وليست استثناء عنه ولا وضعًا غريبًا فى حركة الكون مادام عامل الزمن يتحكم فى الصلة بين الماضى والحاضر وبين الحاضر والمستقبل، وما أكثر الجنازات التى شهدتها ولاحظت قلة عدد المشاركين فيها رغم أن ذات الوفاة لو حدثت قبل ذلك بعشر سنوات لارتجفت الدنيا وتزاحم الناس وتساقطت دموع التماسيح، ولكن لأن الرجل رحل عن موقعه وغابت عنه فرص قادمة فقد تهيأ لمن يعرفونه أن الملف قد أغلق ولا داعى للمتابعة، تلك طبيعة البشر التى تجهل تمامًا تأثير عامل الزمن ولا تتوقع سنوات الذبول وتتصور وهمًا أن قيمة الناس تحسب بالمواقع والمراكز والمناصب التى يشغلونها وعندما يزول ذلك الثالوث فكأنما تحقق الاغتيال المعنوى لصاحبها حتى غربت شمسه، إننى أكتب هذه الكلمات وأنا أدرك أنها تجد صدى فى كل نفسٍ شفافة أو ذهن متقد أو عقلية لماحة، فلقد كثر فى عصرنا أصحاب الشخصيات المزدوجة والنفسيات المريضة والمشاعر المزيفة، وأصبح عامل الزمن هو الفيصل فى الحكم على ما نراه، وقديمًا قال أبناء القرية المصرية (عندما مات كلب العمدة خرجت له القرية بكاملها، ولما مات العمدة نفسه فكان العدد أقل) لأن العمدة بسلطته ومكانته لم يعد موجودًا والحاجة إليه لم تعد قائمة والمنفعة منه قد انتهت. وهنا يبرز مرة أخرى عامل الزمن ليطل على البشر مذكرًا الجميع بأن لكل كائن نهاية ولكل حى مقبرة، ولقد كنت أمر أمام مسجد عمر مكرم ذات مساء ورأيت أحد كبار المسئولين السابقين يأخذ العزاء فى شقيقه كما عرفت بعد ذلك، ولأن الرجل كان كريمًا معى فى وقت سلطته كان حتمًا على أن أكون وفيًا له فى كربته، وعندما دخلت سرادق العزاء وجدت عددًا لا يزيد على أصابع اليدين من المعزين هم من بقى من شعبية الرجل وأهمية أخيه، وبعد العزاء مضيت أفكر فى فلسفة الزمن وطبيعة البشر، وآمنت بأن لكل زمان آية ولكل عصر حكاية، وأن الحياة لا تدوم على وتيرة واحدة.
*نقلاً عن "الأهرام"